أراد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أن يخفف وقع «هزيمة» يونيو 1967 على المصريين، والعرب جميعاً، الذين أوجعت الصدمة قلوبهم، وزرعت المرارة في أنفسهم، فأطلق عليها «نكسة»، ليقين في داخله أن الجيوش العربية في مصر وسورية «خسرت جولة، لكنها لم تخسر المعركة»، وهو ما حدث بالضبط عندما استعاد الجيش المصري ثقته في نفسه، ودحر العدو الإسرائيلي في ست ساعات حرر بها سيناء المحتلة، وأعاد إلى الأمة العربية كرامتها المهدرة.

Ad

تذكرت وطأة الذكريات المؤلمة لكلمة «نكسة»، وأنا أتابع تداعيات القرارات العجيبة التي يتخذها وزير الثقافة المصري د. صابر عرب يوماً بعد الآخر، وتعكس الكثير من الفوضى والعشوائية وقلة الخبرة، كما تؤكد أن طول جلوس «عرب» على المقاعد الوثيرة، واستمراره في البقاء داخل المكاتب المكيفة بعيداً عن العمل الميداني أفقده حساسية الاتصال بالجماهير، والتواصل مع مشاكلهم وقضاياهم، وهو الأمر المطلوب لأي مشتغل في العمل العام.

«نكسة أغسطس» هو الوصف الدقيق للمشهد الثقافي المرتبك الذي يعيشه المبدعون والمثقفون منذ تولي صابر عرب مهام منصبه، فالرجل لا يتخذ قراراً من دون أن يعطي أذنيه لمن حوله، ممن يرغبون في إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، وهو بدوره يتصور أن فوزه بالمنصب يدعوه إلى إبداء الكثير من الامتنان، والسعي إلى رد الفضل والجميل، وبدلاً من أن يتعلم من أخطائه، ويدرك أنه سيدفع الثمن إن آجلاً أم عاجلاً فإنه يبرر قراراته بأننا «نعيش ظرفاً استثنائياً».

المثير للدهشة أنه يغرر بالصحافيين والإعلاميين عندما يقول إنه «أنقذ المهرجان (القاهرة السينمائي) من مصير الشطب من الأجندة الدولية في حال عدم إقامته للعام الثاني على التوالي» في الوقت الذي يُصدر فيه قراراً بإيقاف الدعم المالي لمهرجان «الأقصر للسينما المصرية والأوروبية»، ويُحاصر بقية المهرجانات بالدرجة التي جعلت الصحف لا تخلو يوماً من شكوى على لسان رئيس مهرجان يستجدي وآخر يقدم فروض الطاعة والولاء كي لا يفقد الدعم.

تكتمل ملامح «النكسة» بتسريبات تؤكد أن وزارة الثقافة قد تُعيد النظر في الدعم الذي كانت تخصصه لإنتاج أفلام روائية طويلة وقصيرة وتسجيلية وتحريك، وربما تلغيه نهائياً بحجة «التقشف» وضعف موازنة الوزارة، في ردة خطيرة سيكون لها عواقبها الوخيمة، لأنها ستترك السوق للتجار بذوقهم الفاسد وشرههم الزائد لتحقيق مكاسب طائلة بأفلام تستهدف تخريب العقل وتشويه الوعي.

في فترة قليلة للغاية، نجح وزير الثقافة في «تجييش» المثقفين والمبدعين ضده في أكبر حركة مناهضة له ولسياساته، من أولئك الذين خاب ظنهم فيه وصدمتهم قراراته، ولم يتأخروا في إصدار البيانات التي تهاجم مواقفه المائعة، مثلما فعلت جبهة الإبداع المصري في بيانها الذي قالت فيه إنها «تربأ به أن يدور في ذات الفلك القديم لنفس ممارسات العهد الماضي»، ووصفت قراراته الأخيرة بأنها «تهدد مستقبل الفن المصري وفعالياته المختلفة عبر إغراقها في محيط البيروقراطية والإجراءات والنزاعات القانونية». وأضافت أن «المساس بمهرجان القاهرة بعد ثورة 25 يناير يمثل انتهاكاً لواحد من أهم مطالب الثورة (الحرية) وهو ما لن تقبله الجبهة، حسب تأكيدها، وستعمل بالتنسيق مع النقابات الفنية، على ضمان استقلالية المهرجان عن نظام الدولة الذي بدأ في اتخاذ خطوات تعبر عن وجه آخر يهدد كل ما له علاقة بالإبداع والمبدعين». في بيان آخر، أكدت نقابة المهن السينمائية أنها «تربأ بوزارة الثقافة أن تشارك في دعوات الردة التي تطالب باستمرار احتكار الدولة للأنشطة الثقافية»، وطالب البيان «بضرورة دعم مؤسسات المجتمع المدني حتى يتسنى لها أداء دورها الثقافي».

عندما اتجهت البرتغال إلى تنفيذ خطة تقشفية صارمة وضعت على رأس بنودها الاستغناء نهائياً عن وزارة الثقافة، وفي إيطاليا أطلق أنطونيو مانفريدي مدير ومؤسس «متحف الفن المعاصر» في مدينة كازوريا في جنوب إيطاليا صرخة استغاثة ضد ما سماه «لامبالاة الحكومة الإيطالية وإهمالها لاحتياجات قطاع الثقافة»، وهدد بإحراق ألف تحفة فنية، بموافقة مُسبقة من الفنانين، تعبيراً عن يأسهم من الوضع الذي وصلت إليه المرافق الثقافية في البلاد. أما اليونان فقد واجهت حالة الكساد الاقتصادي بتخفيض أجور قيادات قطاع الثقافة، وتسريح أكثر من ألفين من العاملين به بينما لم يجد وزير الثقافة المصري صابر عرب حلاً لمواجهة العجز سوى مطاردة المهرجانات، وملاحقة مؤسسات المجتمع المدني كي لا تنزع عنه سيطرته على الفعاليات الثقافية، وكان الأولى به أن يفعل مثل الدول المتحضرة، ويستقيل أو يبدأ بتسريح مستشاري وقيادات وزارته، وإذا لم ير في الأمرين حلاً فأمامه البديل الإيطالي وهو: الحرق.