بعضهم كان ينتظر أن يفوز الرئيس المصري من أي حزب ومن أي اتجاه، ويأتي حاملاً بيده العصا السحرية، لحل مشاكل مصر المزمنة منذ عشرات السنين، والتي عرضنا بعضها هنا، على هذه الصفحة في "الجريدة" في الأسبوع الماضي، في مقالنا (أيها المصريون: صبراً، ومهلاً، 25/7/2012).

Ad

رؤساء العالم

من الواضح لنا- من خلال قراءتنا للتاريخ القديم والحديث- أن معظم رؤساء العالم ليست لديهم خبرة في إدارة دفة الحكم في بلادهم، فهم إن جاؤوا من بلاد متقدمة كأميركا كانوا أساتذة جامعة (الرئيسان: وودرو نيلسون وأوباما) أو عسكريين (أيزنهاور) وقلة منهم كان حاكماً لولاية كبيرة (ريغان حاكم كاليفورنيا) أو شيخاً من شيوخ الكونغرس (جون كنيدي). وإن جاؤوا من بلاد متخلفة فيكونوا قد ورثوا الحكم عن آبائهم وأجدادهم، أو تولوا الحكم بقوة السلاح كما هي الحال في معظم أنحاء العالم العربي.

تحوّل تاريخي كبير

ومصر بانتخابها محمد مرسي كانت قد لقَّنت العرب درساً بليغاً في السياسة، وإدارة الحكم، كما سبق أن قلنا.

فما حدث في مصر في 25 يناير 2011 تحوّل تاريخي كبير، بكل المقاييس رغم كل ما يقال عن خيبة أمل- غير واقعية، ولا منطقية- كثير من المصريين، الذين كانوا يعتقدون أن التحوّل من عهد ماضٍ الى عهد حاضر، سهل وسريع، كما يتحول المشاهد بـ"الريموت كنترول" من محطة تلفزيونية إلى أخرى، واكتشف المصريون، أن الأمر على عكس ذلك.

فآلام ولادة الثورات، أصعب بكثير من آلام ولادة الأمهات!

وبريطانيا وفرنسا وأميركا وروسيا ومصر (1952) نفسها ما زالت حتى الآن، تعاني بقايا آلام ولادة الثورة.

مشاكل متراكمة منذ العهد الملكي

فآلام الثورة كبيرة وكثيرة، ومن الصعب التغلب عليها، والتعافي منها بسرعة، خاصة بالنسبة إلى مصر، التي تعاني منذ العهد الملكي؛ أي منذ أكثر من ستين عاماً، مشاكل وعقبات جمَّة، أهمها هذه الزيادة المطردة في عدد السكان، والتي لا تتناسب إطلاقاً مع إمكانات مصر الصناعية، والزراعية، والتنموية. ولا تتناسب مع حجم الثروة الطبيعية، لا سيما أن معظم سكان مصر يعيشون على ضفتي نهر النيل (الدلتا)، وهو شريط لا يتعدى عرضه عدة كيلومترات.

مصر والهند قياس فاسد!

تقول بعض فئات المعارضة دائماً، إن زيادة عدد السكان مقارنة بالناتج القومي السنوي، ليست حجة أمام الحكومات المصرية المتعاقبة، لهبوط مستوى الحياة العامة المصرية، ويضربون مثلاً بالهند ذات المليار ومئتي مليون نسمة، ولا يعلمون، أن الناتج الاقتصادي القومي الهندي، بلغ في السنة الماضية 2011 حوالي 6% وهو ما لم يبلغ مثيلاً له في مصر، أو حتى أقل من نصفه. ففي الهند تقابل زيادة عدد السكان المطردة بمزيد من الإنتاج، وهو ما لا يحدث في مصر. زيادة على ذلك، فالهند علمياً وتقنياً متقدمة بخطوات واسعة أمام مصر المتخلفة عن الهند. فأطلقت الهند في عام 2008 مركبة فضائية، وهي تصنع كل شيء، ولا تحتاج إلى استيراد أي شيء، فشركة تاتا -مثلاً- وهي إحدى أكبر الشركات الهندية، التي تعمل في جميع المجالات، نجحت في صناعة أرخص سيارة في العالم، وتطورت الهند نووياً، وصعدت تجارة البرمجيات الهندية، لتصبح الثانية على مستوى العالم!

وتتبنى الحكومة خطة طموحة‎ ‎للنهوض بالبنية الأساسية لتلحق بالحاجات المتصاعدة لهذا العدد الرهيب من السكان، فطرحت عدداً ضخماً من المشروعات الخاصة بالمياه، والكهرباء، والطرق، وغيرها، ولأن الحكومة الهندية لا تملك المال الكافي، فقد دعت المستثمرين من كل مكان، لكي يقوموا هُمْ بإنشاء تلك المرافق، على أن يتملكوها لفترة ما، تصل إلى ربع قرن، ثم تعود ملكيتها للدولة بعد ذلك. فأصبح من الطبيعي، أن ترى شخصاً ما، أو شركة خاصة، تمتلك محطة للكهرباء، أو مطاراً جوياً، أو ميناء بحرياً، أو طريقاً برياً، أو خطاً للسكك الحديدية، وهو ما لم يتم في مصر.

تحديات كثيرة أمام الرئيس

إذن، أمام مرسي، الرئيس الجديد لمصر تحديات كثيرة، وهو قد جاء رئيساً، وليس في مصر قاعدة علمية كالقاعدة العلمية الهندية، لكي يبني عليها خطة تنموية سريعة، تنقذ البلاد من كارثة اقتصادية، ربما كانت أعنف من الكارثة الاقتصادية اليونانية الأخيرة.

وربما كانت الأخبار التي أذيعت عن الأزمة المالية المصرية، قبل مجيء الرئيس مرسي غير دقيقة، ومبالغ بها، وفي هذه الحالة، يمكن أن يأتي الأمل في الإصلاح الاقتصادي السريع، ولعل تكليف مرسي الأخير، لهشام قنديل برئاسة الوزراء، يبشر بخير في الإصلاح، والنهوض، فمصر بحاجة ماسة الى خبراء في المال، والماء، أكثر من حاجتها الى خبراء في السياسة.

وأرى، أن الخبرة في هذه المرحلة من تاريخ مصر الحديث، في أي مجال من المجالات التنموية، مفيد لمصر أكثر بكثير من هذه السجالات السياسية البيزنطية، كما أرى أن الخبراء المتدينين، أكثر فائدة لمصر الآن، فهم لا يسرقون، ولا يكذبون، ويخشون ربهم، أكثر من أي فئة أخرى.

فلنجرب هؤلاء في رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء، ولننظر ماذا سيفعلون غداً!

جاء الرئيس حاكماً لا ساحراً

لقد جاء مرسي رئيساً للجمهورية، وليس ساحراً يُخرج الأرانب من صدره وجيوبه، وهو لا يحمل عصاً سحرية، أو "مصباح علاء الدين"، أو "ريموت كنترول" للضغط عليه، وحل كل مشاكل مصر الكثيرة والمتراكمة، منذ العهد الملكي، مروراً بالعهد الجمهوري. ومشاكل مصر الاقتصادية خاصة بحاجة الى سنوات طويلة لكي يتم علاجها، فما أسرع الهدم الاقتصادي، وما أبطأ البناء الاقتصادي.

ولكي تنفق مليون دولار، فإنك لا تحتاج إلى أكثر من دقائق، ولكن لكي تجمع هذا المليون، فلربما تقضي العمر كله في جمعه!

مصر في صلاة الجمعة

لفت نظري أداء الرئيس مرسي صلاة الجمعة، 27/7/2012 في مسجد ناصر بالفيوم، التي صوتت لمرسي بكثافة شديدة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ولفتت نظري كذلك، خطبة الشيخ أبو بكر صالح، التي حدد فيها ما تحتاجه مصر هذه الأيام بشدة، وقال:

"إن مصر تحتاج منا، أن نرتفع فوق الأحزاب، والخصومات، والخلافات، والنزاعات، لكي ننهض بها، ونعبر بها بر الأمان. ويجب أن نعود بها، لتتبوأ مكانتها، ولن يتحقق ذلك، إلا إذا تمسكنا بهدي وأخلاق النبي الكريم عليه السلام. فالله يقول: [خذ بالعفو، وأمر بالمعروف، وأعرض عن الجاهلين]. فهذه هي تعاليم الإسلام، التي يجب علينا أن نطبقها تطبيقاً عملياً في حياتنا".

كما لفت نظري، أنه عقب انتهاء الخطبة، وأداء صلاة الجمعة تلك، أدلى الرئيس مرسى بكلمة قال فيها:

"رمضان فرصة لكي نتصالح مع الله، ومع أنفسنا، ولكي نتحاب، ونطلب من الله الخير، والبركة. أنتم جميعا في القلب، وكل من يرفع يده، أو يقدم مقترحاً، أو لديه مظلمة، فأنا كلي آذان صاغية لما يقال. نحن اليوم نتحرك من أجل [وطن نظيف] في يوم الجمعة، وفي كل الأيام".

وهذه بادرة جيدة، تدل دلالة واضحة، على أن الرئيس أتى حاكماً لمصر، وليس ساحراً من سحرة الفراعنة، وليس بيده "خاتم سليمان"، أو مصباح علاء الدين، أو "الريموت كنترول"، الذي من خلاله، يستطيع حل مشاكل مصر بكبسة زر، أو بفركة إصبع.

* كاتب أردني