المخرج الروسي اليكساندر سوكوروف (مواليد 1951) يتوج أعماله السينمائية الـ18 (وله 28 عملاً وثائقياً لا يقل براعة) في العام الفائت بفيلم فاوست، الذي حاز أعلى جائزة لأحسن فيلم في مهرجان «فينيسيا» السينمائي لعام 2011. اليوم يُعرض في لندن. وعادة ما تُعرض أفلام من هذا الطراز الجدي بصورة خاطفة. التقطت الخبر وذهبت ظهيرة اليوم التالي. كانت صالة السينما شبه خالية، لأن من لم يقرأ الدراما الشعرية «فاوست» للشاعر الألماني غوتة، ويتابع ترجمة الحوار المتسارع، الكثيف، ويميل ببصيرة خاصة إلى طيات المعاني العميقة، قد يدخل في متاهة شديدة الغموض، يُسهم فيها التعامل السينمائي التعبيري مع الحدث، والشخوص، والحوار، والكاميرا، واختيار المكان والزمان... بصورة قد يكون في غنى عنها.
سوكوروف استلهم الدراما الشعرية في جزئيها، ولم يعتمدها حرفياً. كان يحاول أن يقرأ ما بين سطورها، على حد تعبيره. ولكن الأمر الذي شغله شغل الشاعر غوتة أيضاً: البحث عن كل ركن معتم في داخل الإنسان، عن ذلك التوق المريع إلى السلطة (بدءاً من سلطة المعرفة!)، التي تقذف بـ«فاوست» إلى ملحمة صراعه مع الشيطان، ثم غوايته. «فاوست» هو الخاتمة في رباعية سوكوروف، التي بدأها مع فيلم مولوش (1999) عن هتلر، و»تايورس» (2001) عن لينين، و»الشمس» (2004) عن إمبراطور اليابان هيروهيتو. فإذا كان الطغاة الثلاثة يرون أنفسهم ظلَّ الله على الأرض، ثم اكتشفوا أنفسهم بشراً في ما بعد، فإن «فاوست» بشر يسعى ليتحول إلى إله أمام أعيننا. ولقد بدأ مسيرته المنتصرة هذه في آخر مشهد للفيلم، يوم قاده مفيستوفولِس إلى أرض الجحيم، فائرة المياه. براعة المخرج التعبيرية لا تُدخلنا في مكان وزمان محددين. فأنت تترك الحدث يعوم داخل مرحلة قد تبدأ في عصر شكسبير وتنتهي عند القرن التاسع عشر. الأزياء، والأزقة الخربة، والسلوك، والحوار، توحي جميعاً بخشونة طاغية، متزاحمة، بالغة العفن، مدعومة من كادر سينمائي مربع مضغوط على الشاشة، وزاوية نظر من الكاميرا مثيرة للارتباك، كثيرة الحركة، كثيرة التنقل، وإضاءة تذكر بلوحات الرسام «رامبرانت». ولك المشهد الأول للدكتور «فاوست» (جوهانيسزيلر) وهو ينقب في أحشاء جثة بشرية عن عضو تسكنه الروح: «الرب الذي يُرعش داخلي خوفاً يبدو خارجي دون حول أو قوة»، وكأنه يباشر معتركه الميتافيزيقي. وبفعل الفاقة والجوع يخرج «فاوست» ليزور مرابياً في دكانه العنكبوتي المزدحم بالأشياء الغريبة. ويحاول إقناعه بأن يرهن أي شيء لديه مقابل وجبة غذاء، ولكن المرابي (أنتون أداسنسكي)، الذي يتمتع بهيئة ليست أرضية، لا يرتضي إلا توقيع «فاوست» بدمه الخالص. وجبة الغذاء تأخذ مداها في تحقيق كل رغائب «فاوست»، مقابل الإمساك بروحه في قبضة الشيطان. ومن هذه الرغائب الحصول على «مارغريت» فائقة البراءة. يحقق الشيطان له هذا، ولكن عبر جريمة قتل أخيها في خمارة تحت أرضية. «الجميع يعرف تماماً ما الذي يقودهم إلى الجحيم». يقول الشيطان «ولكنهم يفعلونه بالرغم من ذلك». تغيم الشخوص في الظلال لأن المخرج ينصرف إلى بطله «فاوست»، وإلى تحدياته من أجل سلطة تفوق كل السلطات. فلا مكانة للسماء في هذا السعي الحثيث إلى الجحيم: «لا وجود للخير، بل للشر وحده»، يقول مفيستو. كنت أتابع وأفكر: «لا تأمن رجلاً بالغ الطموح». غوتة يقول: «من لا يعرف السعادة إنسان خطر». حب الكلمات التي يسهل الإيمان بها، وانعدام الرضا وغلبة التعاسة أمام عطايا الحياة تسهل تماماً هذا العقد الدموي بين الإنسان والشيطان. لقد قطع «فاوست» شوطاً بعيداً من هذا. شوط يراه من يملك بصيرة في كل مسعى حار وأعمى بالضرورة، باتجاه السلطة، القيادة، المال، الشهرة، النجومية.
توابل - ثقافات
فاوست على الشاشة
31-05-2012