أوروبا وأزمة القيم

نشر في 20-12-2012
آخر تحديث 20-12-2012 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إن كراهية الأجانب والتطرف من أعراض المجتمعات التي تمر بأزمة عميقة، ففي عام 2012، فاز حزب "الفجر الذهبي" اليميني المتطرف بواحد وعشرين مقعداً في الانتخابات البرلمانية في اليونان، وكسب حزب "جوبيك" اليميني أرضية سياسية في المجر مسقط رأسي، وتلقت الجبهة الوطنية تحت زعامة ماريان لوبان دعماً قوياً في الانتخابات الرئاسية في فرنسا، ويشير الدعم المتنامي لقوى مماثلة في أنحاء أوروبا المختلفة إلى نتيجة لا مفر منها: وهي أن الأزمة المالية المطولة التي ابتليت بها القارة تعمل على خلق أزمة قيم تهدد الآن الاتحاد الأوروبي ذاته.

عندما كانت فكرة الاتحاد الأوروبي مجرد طموح، فإنها كانت تتمتع بقوة جذب هائلة، حتى إنها استولت على مخيلة الكثير من الناس، وأنا منهم، فكنت أنظر إلى الفكرة باعتبارها تجسيداً للمجتمع المفتوح- ارتباط طوعي بين دول ذات سيادة ولديها الاستعداد للتخلي عن جزء من سيادتها من أجل المصلحة العامة. وكانت هذه الدول تتقاسم تاريخاً مشتركاً، فقد خلفت الثورة الفرنسية التي أعلت شعار الحرية والمساواة والإخاء إرثاً دائماً. وبالبناء على هذا التقليد، شكلت الدول الأعضاء اتحاداً يقوم على المساواة ولا تهيمن عليه أي دولة أو جنسية.

والآن أدت أزمة اليورو إلى تحويل الاتحاد الأوروبي إلى كيان مختلف جذرياً، فبعيداً عن أنها ارتباط طوعي، لا يربط بين بلدان منطقة اليورو اليوم سوى الانضباط القاسي؛ وبعيداً عن أنها ارتباط بين متساويين تحولت منطقة اليورو إلى ترتيب هرمي حيث يملي المركز السياسة في حين تتحول الأطراف على نحو متزايد إلى كيانات تابعة خاضعة للمركز؛ وبدلاً من الإخاء والتضامن، تتكاثر القوالب النمطية العدائية.

لقد تولت مجموعة صغيرة من رجال الدولة الذين تمتعوا ببعد النظر قيادة عملية التكامل، فناصر هؤلاء الرجال مبادئ المجتمع المفتوح ومارسوا ما أطلق عليه كارل بوبر وصف «الهندسة الاجتماعية التدرجية». ولقد أدركوا أن بلوغ الكمال من المحال؛ لذا فقد وضعوا أهدافاً محددة وجداول زمنية صارمة، ثم عملوا على حشد الإرادة السياسية من أجل خطوة صغيرة إلى الأمام، وهم يدركون تمام الإدراك أن هذه الخطوة سيتبين أنها غير كافية بمجرد إنجازها، الأمر الذي يعني ضرورة اتخاذ المزيد من الخطوات، وهكذا تحولت «جمعية الفحم والصلب الأوروبية» تدريجياً إلى الاتحاد الأوروبي.

وكانت فرنسا وألمانيا دوما في طليعة هذا الجهد، ومع تفكك الإمبراطورية السوفياتية، أدرك قادة ألمانيا أن إعادة توحيد شطري ألمانيا هدف من غير الممكن أن يتحقق إلا في سياق أوروبا الأكثر اتحاداً، وكانوا على استعداد لبذل تضحيات كبرى من أجل تحقيق هذه الغاية. وعندما أتى وقت الاتفاق، كان الألمان على استعداد للمساهمة بقدر أكبر قليلاً مما ساهم به غيرها والرضا بمكاسب أقل قليلاً، وبالتالي تيسير الاتفاق.

في ذلك الوقت، كان رجال الدولة الألمان يؤكدون أن ألمانيا لا تتبنى سياسة خارجية مستقلة، بل كانت سياستها أوروبية فقط. وأدى هذا الموقف إلى تسارع كبيرة لعملية التكامل الأوروبي، التي بلغت ذروتها بتبني معاهدة ماستريخت في عام 1992 ثم تبني عملة اليورو في عام 1999. ثم أعقب ذلك فترة من ترسيخ وتوطيد الاتحاد (والتي شهدت طرح أوراق اليورو النقدية والعملات المعدنية في عام 2002).

ثم جاء انهيار 2008، الذي نشأ في الولايات المتحدة ولكنه تسبب في إحداث مشاكل أكبر في أوروبا مقارنة بأي مكان آخر. واستجاب صناع القرار السياسي لانهيار «ليمان براذرز» بالإعلان عن اعتزامهم عدم السماح لأي مؤسسة مالية أخرى مهمة نظامياً بالإفلاس، وهو ما تطلب الاستعاضة عن الأسواق المجمدة بائتمان الدولة.

ولكن بعد ذلك بفترة وجيزة، أكَّدَت المستشارة أنجيلا ميركل أن مثل هذه الضمانات لابد أن تعمل كل دولة على حِدة لتوفيرها، وليس أوروبا مجتمعة، وهنا كانت بداية أزمة اليورو، لأن ذلك الطرح كشف عن عيب في العملة الموحدة لم تكن السلطات ولا الأسواق المالية مدركة لوجوده، والذي لا يزال غير معترف به بشكل كامل حتى يومنا هذا.

فعن طريق إنشاء البنك المركزي الأوروبي، عَرَّضَت الدول الأعضاء سنداتها الحكومية لخطر التخلف عن السداد، والدول المتقدمة التي تصدر السندات بعملاتها الخاصة لا تعجز أبداً عن سداد ديونها لأنها قادرة دوماً على طباعة المال، وقد تنخفض قيمة عملاتها نتيجة لهذا، ولكن خطر العجز عن السداد غير وارد بالنسبة إليها.

وعلى النقيض من هذا، فإن الدول الأقل تقدماً، والتي تقترض بالعملات الأجنبية معرضة لنفاد ما لديها من احتياطيات العملة. وعندما ضربت اليونان أزمة مالية، اكتشف عالم المال فجأة أن دول منطقة اليورو وضعت نفسها في موقف الدول النامية.

وهناك تشابه قوي بين أزمة اليورو وأزمة الديون في أميركا اللاتينية في عام 1982، عندما أنقذ صندوق النقد الدولي النظام المالي الدولي بإقراض الدول المثقلة بالديون القدر الكافي فقط لتمكينها من تجنب العجز عن سداد ديونها، ولكن صندوق النقد الدولي فرض تدابير تقشف صارمة على هذه الدول، فدفعها إلى فترات مطولة من الركود، وعانت أميركا اللاتينية من عقد ضائع من الزمان.

واليوم تلعب ألمانيا نفس الدور الذي لعبه صندوق النقد الدولي آنذاك. صحيح أن السياق مختلف، ولكن التأثير هو ذاته، فقد دفعت أزمة اليورو النظام المالي إلى حافة الإفلاس، التي تم تفاديها من خلال إقراض دول مثل اليونان القدر الكافي فقط لتجنب العجز عن سداد ديونها.

ونتيجة لهذا، انقسمت منطقة اليورو إلى دول دائنة وأخرى مدينة، وأصبحت الدول الدائنة مسؤولة عن تحديد السياسة الاقتصادية، فهناك مركز تقوده ألمانيا، وأطراف تتألف من الدول المثقلة بالديون. ويعمل فرض الدول الدائنة تدابير تقشف صارمة على الدول الطرفية على إدامة انقسام منطقة اليورو بين المركز والأطراف. وتستمر الظروف الاقتصادية في التدهور، الأمر الذي يؤدي إلى معاناة إنسانية هائلة، ويقدم الضحايا الأبرياء المحبطون والغاضبون للتقشف أرضاً خصبة لخطاب الكراهية، وكراهية الأجانب، وكل أشكال التطرف.

وهكذا فإن السياسات الرامية إلى الحفاظ على النظام المالي واليورو تعمل على تحويل الاتحاد الأوروبي إلى عكس المجتمع المفتوح تماماً، فهناك تناقض واضح بين متطلبات اليورو المالية والأهداف السياسية للاتحاد الأوروبي. ومن الممكن تلبية المتطلبات المالية من خلال محاكاة الترتيبات التي كانت هيمنت على الاقتصاد العالمي في ثمانينيات القرن العشرين وتقسيم منطقة اليورو إلى مركز وأطراف؛ ولكن هذا من غير الممكن أن يتوافق مع مبادئ المجتمع المفتوح.

ولكن ثمة طريقة يمكن من خلالها تعديل السياسات المتبعة للحفاظ على اليورو بحيث تلبي الأهداف السياسية للاتحاد الأوروبي. على سبيل المثال، من الممكن الاستعاضة عن السندات الحكومية للدول الفردية بسندات اليورو، ولكن طالما ظل التناقض قائماً، فلابد أن تكون الأسبقية للأهداف السياسية. ولكن من المؤسف أن هذه ليست الحال، فالمشاكل المالية ملحة، وتحتكر اهتمام الساسة. وزعماء أوروبا مشغولون بأزمة اليوم حتى إنهم لا يجدون الوقت اللازم للتفكير في العواقب الطويلة الأمد لتصرفاتهم، ونتيجة لهذا فإنهم يواصلون سلوك مسار من شأنه أن يديم الانقسام بين المركز والأطراف.

وهو احتمال كئيب إلى الحد الذي ينبغي أن يجعلنا جميعاً حريصين كل الحرص على عدم حدوثه. كان الهدف من الاتحاد الأوروبي في الأصل أن يعمل كأداة للتضامن والتعاون. واليوم لم يعد يربط بين أجزائه سوى الضرورة القاتمة. وهذه ليست أوروبا التي نريدها أو نحتاج إليها، بل يتعين علينا أن نعمل جاهدين على عكس اتجاه هذا التحول غير المقبول. كما يتعين علينا أن نعمل على إيجاد السبيل إلى استعادة روح التضامن والقيم المشتركة التي ألهمت مخيلة الأوروبيين ذات يوم.

* جورج سوروس | George Soros ، رئيس مجلس إدارة صندوق سوروس ومؤسسات المجتمع المفتوح، ومؤلف كتاب «مأساة الاتحاد الأوروبي: التفسخ أو الانبعاث؟».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».

back to top