شهدت مصر وتونس تغييراً سياسياً دراماتيكياً خلال عام 2011، وهو التغيير الذي اتخذ شكلاً ثورياً حاداً، قبل أن يتطور إلى مرحلة تحول سياسي معقدة وصعبة، وإن اتسمت بطابع ديمقراطي في كلا البلدين.

Ad

ورغم اختلاف الظرف التاريخي للبلدين، ودرجة التطور الديمقراطي في كل منهما، ورغم التباين الواضح في الطبيعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعين، فإن الإعلام والمجتمع المدني لعبا دورين فاعلين ومؤثرين في التحول السياسي في كل منهما.

تعد مصر أقدم دول المنطقة العربية معرفة بوسائل الإعلام الجماهيرية، كما أنها أقدمها معرفة بمنظمات المجتمع المدني، وهو الأمر الذي أدى إلى زيادة رقعة تأثير هذين الإطارين في التغيرات السياسية التي مرت بها خلال العشرين شهراً الماضية.

فقد شهدت مصر تطوراً لافتاً في صناعة الإعلام في العقدين الأخيرين، كان أبرز عامل فيه نشوء وسائل الإعلام الخاصة وتمركزها الجيد في الوسط الإعلامي، في ظل منافسة مع منظومة إعلامية تقليدية مملوكة للدولة وواقعة عادة تحت سيطرة النظام الحاكم أياً كانت طبيعته.

وقد أجبرت تلك الوسائل الخاصة نظيرتها المملوكة للدولة على انتهاج خط أقل استتباعاً للسلطة الحاكمة دون أن يحررها تماماً، وساهمت الوسائل الخاصة تحديداً، بسبب درجة من الاستقلالية أعلى نسبياً، في بلورة الشعور العام بالغضب لدى قطاعات الجمهور إزاء النظام السابق.

ومع بروز دور شبكة الإنترنت، واتساع استخدامها المطرد، وتحررها النسبي مقارنة ببقية أنماط الإعلام التقليدية، استطاعت المنظومة الإعلامية المصرية أن تلعب دوراً محورياً في التمهيد لقيام "ثورة يناير".

ولم تكن تلك المنظومة قادرة على لعب هذا الدور المحوري من دون حراك سياسي واجتماعي ملهم ومحرك، وهو الحراك الذي لعبت فيه منظمات المجتمع المدني دوراً مركزياً.

وقد تم طرح التساؤل عما إذا كان الإعلام هو المحرك الأساسي الذي قاد إلى اندلاع ثورة يناير، بالنظر إلى أنه نقل الثورة التونسية للجمهور المصري أولاً، وأنه سخر وسائط التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، خصوصاً موقع "فيسبوك"، لتكون بنية اتصالية أساسية للحشد والتعبئة تمهيداً للعمل الثوري ثانية، وأنه بلور الشعور الثوري وحالة النقمة على الأوضاع العامة من خلال درجة من التحرر في التغطيات الإعلامية التقليدية ثالثاً.

ويبدو بالفعل أن الإعلام المصري لعب دوراً محورياً في هذا الصدد، لكن هذا الدور لم يكن ليؤتي ثماراً لولا أنه ارتكز على فعل سياسي ومجتمعي يصب في ذات الاتجاه.

وقد كانت منظمات المجتمع المدني، سواء بمفهومها الواسع الذي يشمل الأحزاب السياسية، أو بمفهومها الأضيق الذي يستبعد المنظمات السياسية، عاملاً مهماً من العوامل التي رفدت الإعلام بوسائل ورسائل وقضايا عززت دوره في هذا الاتجاه.

ويمكن القول إن الإعلام والمجتمع المدني شاركا في إحداث هذا التغيير السياسي الجوهري في مصر، كما يمكن القول إنهما أظهرا قدراً من التساند والتكامل أحياناً في هذا الإطار، رغم بروز بعض المشكلات بين الجانبين من جهة، وعدم تفعيل التعاون والتكامل بينهما بالشكل اللازم من جهة أخرى.

الإشكال الذي يبرز بقوة الآن في مصر يتعلق بميل واضح لدى السلطة الجديدة للضغط على حرية الإعلام، واستهداف مستمر لأنشطة المجتمع المدني في الوقت نفسه.

تفيد التقارير المتواترة بأن الحكام الجدد في مصر يضعون الإعلام في بؤرة اهتمامهم، ويستغلون أخطاء كبيرة وأنماط انحياز صارخة في الجسم الإعلامي للنيل منه.

تتصاعد التهديدات في مصر ضد الإعلام يوماً بعد يوم، وبعد عملية ملتبسة لصياغة مواد دستورية لا تعزز الحريات الإعلامية، يهدد الرئيس مرسي بنفسه بعض مالكي الفضائيات، ويقوم وزير الإعلام المنتمي لجماعة "الإخوان المسلمين" بتحجيم انتقاد الجماعة في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية المملوكة للدولة، في ما يقوم "مجلس الشورى"، الذي يمتلك الصحف المملوكة للدولة، باستخدام صلاحيات قانونية موروثة من عهد مبارك في التحكم في أداء تلك الصحف، لتكون أكثر تجاوباً مع سياسات "الإخوان" وأقل معارضة لها.

يتزامن ذلك مع استمرار محاكمات منظمات المجتمع المدني، بتهمة التمويل الأجنبي، من دون أن تنجز الدولة قانوناً لتنظيم العمل الأهلي، ومن دون أن تعلن جماعة "الإخوان" مثلاً عن طريقة تمويلها، وحجم هذا التمويل، بل من دون أن تتخذ وضعاً ينسجم مع القوانين النافذة في مصر.

تونس أيضاً كانت قد شهدت شكلاً من أشكال التعاون بين المجتمع المدني والإعلام عشية الثورة وأثناءها وبعدها، لكنه تعاون أقل حجماً من ذلك الذي شهدته مصر، وربما يكون أقل تأثيراً أيضاً، بسبب طبيعة الأوضاع التونسية عشية "ثورة الياسمين"، والتي اتسمت بنزعة تحكم ومركزية سلطوية شديدة، قلصت من طاقات هذين الإطارين بشكل نسبي.

لكن الآمال العريضة التي انتابت الإعلاميين التونسيين في أعقاب إطاحة بن علي بتحرير الإعلام وتطويره باتت تتراجع على صخرة معاندة السلطة الجديدة لحرية الإعلام.

لا شك أن العلاقة بين المجتمع المدني والإعلام، وأداء الإطارين، في مصر وتونس يشوبها قدر من السلبية، يعود في مجمله إلى التأثير السلطوي، وبعض أنماط الفساد، أو شبهات التمويل، أو تراجع الكفاءة في الإطارين.

وبسبب هذه المشكلات، لا يجري التعاون بين الإطارين بالشكل المأمول، وإن كانت دراسات علمية موثوقة أشارت إلى تحسن مطرد في هذا الإطار.

لن تنجح ثورة الياسمين في تونس أو ثورة يناير في مصر في تلبية طموحات الشعبين من دون حريات وشفافية في قطاعي الإعلام والمجتمع المدني، كما أن تحقيق تلك الأهداف يستلزم أيضاً تفعيل التعاون بين القطاعين.

تخوض مصر وتونس تجربة شديدة الصعوبة لإنجاز تحول ديمقراطي يليق بكفاح الشعبين وتطلعهما للكفاية والعدالة والكرامة الإنسانية، وسيكون للإعلام والمجتمع المدني دور فعال في إنجاز ذلك التحول إذا استطاعا تعميق التعاون بينهما، وتجاوز جوانب القصور، نحو تكامل يخدم القضايا الوطنية، وإذا استطاعا أيضاً مقاومة استهداف السلطة، في البلدين، للحريات، ومحاولتها تطويعهما لمصلحتها.

* كاتب مصري