لأن تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة تمر سريعة، آخذة رحيق أعمارنا في دربها، فإننا نختار تواريخ ومناسبات بعينها، نعتقد أنها مهمة، لنعاود الاحتفال بها بين حين وآخر، وكأننا نذكّر أنفسنا بأهميتها، ونذكّر أنفسنا من جهة أخرى بضرورة معاودة الالتفات إليها، عل هذا الاهتمام وذلك الالتفات يشعل أو يجدد جذوة لحظات السعادة في قلوبنا. والشعر بالرغم من حضوره اليومي في كل ما حولنا، فإننا نتجاهل وجوده، مما حدا بالعالم لأن يخصص يوماً له، ويحتفل في كل عام بيوم 21 مارس كيوم عالمي للشعر.

Ad

"الشعر والموسيقى والصداقة" أجمل ما في الحياة. الشعر بصفته خلاصة الكلام المصفى الحامل للفكر الإنساني والحكمة، والموسيقى كونها غذاء للروح حين تعزّ لحظة الصفاء، والصداقة عصا الإنسان الأقوى التي يتوكأ عليها لعبور درب الحياة الصعب المليء بالعثرات. من هنا فإن الشعر درب يوازي درب الحياة، وإذا بعُد إنسان عن الشعر ابتعد عن عطر الحياة.

قد يظن قارئ أنني أبالغ في ما أقول، لكن ديدن الحياة أنها لا تمنح سر عناصرها إلا لمن يخبر عالم تلك العناصر، لذا فإن بشراً وعلى امتداد التاريخ الإنساني، عرفوا صنعة الشعر، إلى جانب معرفتهم بصنع أخرى كثيرة، ووقفوا أمام الشعر كأجلها وأعظمها. ومؤكد أن أمة العرب عظّمت الشعر كما لم تُعظم أمراً آخر، وليس أدلّ على ذلك من نشر المعلقات على أستار الكعبة قبل الإسلام، واتهام كلام الله المنزّل لعظمته بأنه افتراء من الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء الردّ الفصل: "أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين" سورة يونس (الآية 38).

لقد احتفل العالم يوم الأربعاء الماضي، بيوم الشعر العالمي، وجاء في "رسالة اليونسكو" بقلم "إيرينا بوكوفا"، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة: "الشعر هو أحد أسمى أشكال التعبير اللغوي والثقافي. وهو يجسد الحرية المطلقة للكلمة والإبداع، ويشكل عنصراً مكوّناً لهوية الشعوب وعاملاً يسهم في بناء هويتنا الشخصية في كثير من الأحيان، شأنه في ذلك شأن الموسيقى والرقص والفنون التشكيلية. والشعر هو أيضاً الحيز الذي تُعقد فيه الصلة العميقة بين التنوع الثقافي والتنوع اللغوي، إذ تشكل اللغة الشعرية، بما تنطوي عليه من نغمات وصور مجازية وقواعد، حصناً متيناً ضد الإفقار الثقافي واللغوي في العالم".

يعيش العالم لحظة تاريخية ملطخة بالدم والقتل، حتى ألِف الإنسان، في كل مكان، مشاهد العنف الأعمى التي تحصد يومياً المئات من أرواح الأبرياء، وصارت أجيال كثيرة من الأطفال والناشئة في العالم ترى أن الإيمان بالفكر والكلمة والأدب والفن والثقافة، يعد أمراً غير واقعي، وأخذت مقولة "شكسبير": "القوة تصنع الحق" مكانها المخيف على أرض الواقع.

إننا أحوج ما نكون إلى الرجوع إلى الشعر، فالرجوع إلى أهمية الشعر، يعني بين أمور أخرى الرجوع إلى أهمية المعرفة، وأهمية الفكر والكلمة واللغة وبالتالي الرجوع إلى قيمة الحياة بوصفها هبة الله للإنسان.

إن الرجوع إلى الشعر، والشعر العربي تحديداً يتطلب فهماً مغايراً لما كان سائداً في العقود الماضية، فهماً إنسانياً ينسجم مع روح العصر، حيث الوصل مع الآخر، والسلام بين الشعوب، هو الغاية الأسمى التي يسعى الجميع من أجلها.

إن الاقتراب من الشعر بوصفه فناً يخص اللغة والشعراء، ويطرب له من عشق الثقافة والأدب، ينزع عن الشعر أهم ما فيه، وأعني بذلك صفته الإنسانية، وقدرته على ترجمة وتجسيد وتخليد المشاعر الإنسانية، وجعلها مشاعاً راقياً بين الناس، دون تميّز لعرق أو لون أو ديانة.