رباعيات الموسيقى
في الشعر الإنكليزي شاعت شهرةُ الرباعيات بين المثقفين والجمهور معا، عبر ترجمة شعرية رائعة قام بها Fitzgerald (1809-1883)، ونشرها بصورة خاصة عام 1859. لم أقع على أثر لشيء من هذه الرباعيات في حقل الموسيقى الكلاسيكية، بالرغم من أن المصادر الأدبية الشرقية صارت مألوفة لدى الموسيقيين الغربيين. هناك لحن وضعه الموسيقي البولندي Szymanowski، جاء ذكره في كتاب عن حياته وموسيقاه. ولكني فوجئت بإصدار جديد، لا أبالغ إذا ما قلت "جوهرة موسيقية"، لمؤلف موسيقي إنكليزي منسي تماما، يدعى السير Bantock (1868-1946). وحكاية الغفلة والنسيان أمر أكثر من مألوف في حقل النشاط الموسيقي.
كان بانتوك ابناً لطبيب جراح، اندفع إلى دراسة الموسيقى في الأكاديمية الملكية، على خلاف رغبة أبيه، وبدأ التأليف طالبا. مارس قيادة الأوركسترا بعد تخرجه بدافع الحاجة للعيش، وارتبط بفرقة مسرحية أخذها في تجوال طويل إلى الشرق لأكثر من عام. ومن الشرق رجع بانطباعات عميقة سنجد آثارها في عمله هذا. اكتسب سمعة واسعة كمؤلف موسيقي منذ 1895. وأبرز خصائص أعماله هي الضخامة وسعة الأفق، خاصة في الأعمال الكورالية مثل "المسيح في البريّة"، "سافو"، و"خمس قصائد غزل للشاعر حافظ شيرازي"، و"الرباعيات" هذه. في طريق عودته مع فرقته الأوركسترالية من الشرق توقف قليلا في قناة السويس، وهناك سمع ترتيلة الأذان الإسلامية من منارات الجوامع، فانطبعت في ذاكرته بحيث جعلها مُفتتحا لعمله الطويل هذا. قائد الأوركسترا فيرنون هاندلي عثر على مخطوطة بانتوك الموسيقية قبل سنتين، واكتشف أنها من الروائع، وأنها تستحق أن تذاع لعشاق الموسيقى، فشرع في ذلك. عنصرا النص الشعري والموسيقي رفيعا المستوى، وبالرغم من الظلال الغامقة حد العتمة أحيانا في النص الشعري، بفعل المعالجة التأملية للموت وقِصَر الحياة، إلا أن الموسيقى تنتشل المعالجة إلى أفق تمجيد الإنسان والحياة والمتعة والجمال، وتستثمر الظلال العميقة للحظات التأمل الفلسفي. لقد استعمل بانتوك أوركسترا ضخمة من أجل رسم لوحة حية معززة بفرقتي كورس كبيرتين. العمل يتألف من ثلاثة فصول، تمتد قرابة ثلاث ساعات، يتوزعها ثلاثة مغنين منفردين (تينور، كونترالتو، باريتون) وكورس. ولقد شاء المؤلف أن يبني الرباعيات المتتالية بصورة درامية، حتى لتبدو أشبه بفن الأوراتوريو، بحيث أخذ المغنون الأدوار على التوالي: الشاعر، حبيبته، والفيلسوف، ثم الكورس الذي يكتفي بالتعليق. الشاعر وحبيبته يغنيان الرباعيات التي تتعامل مع موضوعة الحياة والحب. وفي المقابل لهما ابتدع بانتوك شخصية الفيلسوف، الذي يغني الرباعيات المستغرقة بالتأمل الفلسفي. أما الكورس فيَشغَـل المَشاهد التي أرادها بانتوك مسرحية. وعبرها ينطلق صوت التساؤلات الأبدية. الموسيقى ذاتها طُعِّمت بمزاج شرقي إسلامي في عدد من فواصلها. مثل اللحن الأساس الذي يشي بالرغبة في معانقة لذائذ الحياة، والتي يمكن أن نتخيله مُستعاداً بصوت أم كلثوم "سمعتُ صوتا هاتفا في السَّحَر..."، الذي يقول: "استيقظوا، فهذي الشمس، التي تبعثر النجوم الهاربة أمامها في حقول الليل. تدفعها والليلَ سوية..." ثم يصفو هذا القسط في الرباعيات إلى التغني باسم الجمال، الحب، والسلوان الذي ينعم به المرء بفعل تأثيرهم. ويُحذّر من الغفلة من ضياع الوقت الذي لا عودة فيه: "... على الجرة الطينية انحيت لأتعلم سر حياتي: ومن فمها استقيت: احتسيها ما دمتَ حيا فليس من عودة لك بعد الغياب". وبعد مناغاة الحب، التي تذكر بالبوح الساخن في "تريستان وإيزولدا" لفاغنر، نعبر مشهد الصحراء والقافلة بأصوات أجراس الجِمال العديدة. ثم يأتي صوت الفيلسوف ليعبر بنا إلى الفصل الثاني من هذه الملحمة الغنائية: "أمرٌ واحد يقيني، هو أن الحياة تسرع هاربة والوردةُ التي كانت ذات لحظةٍ مزهرةً، تموت إلى الأبد".