اجتاح الغضب الإسلامي الساطع والمدمر العواصم والمدن العربية والإسلامية احتجاجاً على الفيلم المسيء إلى رسولنا الكريم محمد- صلى الله عليه وسلم- وتحول هذا الغضب إلى تظاهرات عنيفة عمت العالم الإسلامي، وتطور بعضها إلى اعتداءات على السفارات والقنصليات والمدارس الأميركية والغربية ومطاعم الوجبات السريعة.

Ad

وتم تدمير وإحراق العديد من الممتلكات والأعلام الأميركية والإسرائيلية والغربية، ورفع أعلام "القاعدة" السوداء، واضطرت قوات الأمن للتدخل بكثافة، وأدت إلى مواجهات دامية أسفرت عن عشرات القتلى والجرحى، وكان ذروة المأساة الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي ومقتل السفير الأميركي الأكثر تعاطفاً وتأييداً للثورة ستيفنز اختناقاً مع 3 من معاونيه.

نددت المظاهرات بإسرائيل وأميركا، وهاجمت الرئيس الأميركي، وأحرقت صوره، وطالبت بإعدام مخرج الفيلم، وطرد سفراء أميركا، وتوالت ردود الفعل المنددة بالفيلم المسيء، معتبرة إياه استفزازاً لمشاعر مليار ونصف مسلم، وإساءة إلى حرية التعبير.

وتوالت الإدانات العربية والإسلامية والدولية ضد الفيلم المسيء، وضد أعمال العنف والقتل والهجوم على السفارات، باعتبارها مسيئة إلى سمعة الإسلام، ورسالته عليه الصلاة والسلام، وليست من نصرة الرسول، طبقاً لبيان الهيئة العالمية للتعريف بالرسول الكريم وبيان مجلس التعاون.

ووصف الأمين العام للأمم المتحدة الفيلم بأنه مثير للاشمئزاز، داعياً إلى الهدوء والتعقل، كما أدان الفاتيكان الاستفزازات بحق المسلمين، وكذلك أعمال العنف الناتجة عنها، ورغم أن إسرائيل تبرأت من الفيلم ووصفته بأنه: تعصب لا يطاق وأعلنت وزيرة الخارجية الأميركية رفض بلادها للفيلم ووصفته بأنه: مقرف ومدان فإن ذلك لم يشفع لهما لدى الجماهير الغاضبة التي رأت فيه مخططاً صهيونياً أميركياً للإساءة إلى الإسلام، وتأجيج الكراهية بين المسلمين والمسيحيين وتفتيت المنطقة!

الآن ما دلالات هذه الاحتجاجات التي أشعلت العواصم العربية؟!

1- تأتي هذه الأحداث متزامنة مع الذكرى الحادية عشرة للعدوان القاعدي على أميركا، وفي هذه المناسبة ينشط الطرفان المتعاديان: المتطرفون عندنا والمتطرفون عندهم في استغلالها وتوظيفها لخدمة أهدافهم السياسية، وإثبات وجودهما جماهيرياً وإعلامياً، ولعلنا نتذكر أن القس المتعصب جونز من فلوريدا أثار موجة غضب في العالم الإسلامي عندما أحرق نسخاً من القرآن الكريم في الذكرى التاسعة لهجمات سبتمبر، وانتهز الظواهري هذه المناسبة ليقول: إن "القاعدة" حققت مهمتها الأساسية، وهي تحريض الأمة ضد أميركا!

2- سلسلة الإساءات إلى قرآننا العظيم ورسولنا الكريم والمسلمين دائمة ومتكررة، وبخاصة بعد اعتداءات سبتمبر 2001 بسبب تصاعد شعبية ونفوذ اليمين الغربي المتطرف الذي وظف أعمال العنف والإرهاب وحماقات بعض المسلمين في الساحة الأوروبية لتشويه ديننا والإساءة إلى الجاليات، واستفزاز مشاعرهم، وتأجيج الكراهية ضدهم.

ويأتي في هذا السياق العديد من الإساءات: الرسوم المسيئة في الدنمارك، تدنيس المساجد في فرنسا، الفيلم المسيء في هولندا، حظر المآذن في سويسرا، حرق المصحف في فلوريدا، واستضافت "bbc" سياسياً بريطانياً متطرفاً قبل سنوات (غريفن) وصف الإسلام بأنه شرير، ولم يخفِ كراهيته للمسلمين واليهود والهنود والسود والمهاجرين، ونادى بإغراق القوارب التي تقل المهاجرين، ومن تعذر إعادتهم اقترح رميهم من طائرة فوق إفريقيا.

وقبل أسابيع عرض فيلم عن تاريخ الإسلام يقول عنه عبدالرحمن الراشد: إنه أكثر سوءاً من فيلم اليوتيوب الرخيص إنتاجاً وموضوعاً.

3- إن ردود الفعل الإسلامية هذه المرة أكثر شدة واتساعاً مقارنة بالمرات السابقة، كما يلاحظ مشاركة الكنائس المصرية للمسلمين في وقفاتهم الاحتجاجية ضد الفيلم المسيء، مستنكرة الإساءة إلى المعتقدات والرسول عليه الصلاة والسلام.

ويعلل البعض اتساع موجة الاحتجاجات وشدة عنفها إلى 3 عوامل: اتساع هامش الحرية في الربيع العربي، وتوافر السلاح بأيدي الجماهير، ظهور الإسلاميين وتصدرهم الساحة.

4- الملحظ المهم هذه المرة، أن التيارات السلفية المتشددة هي التي تنظم الاحتجاجات وتحرض الجماهير وتقودها، وهي المحرك الأبرز والأنشط فيها، وذلك بخلاف حركة الاحتجاجات السابقة ضد الإساءات الغربية التي كان يحركها ويقودها رموز ونشطاء الإسلام السياسي، ما تفسير ذلك؟!

تفسير ذلك واضح، فالإسلام السياسي اليوم يحكم، وهو في السلطة بينما التيار السلفي في المعارضة، وليس من مصلحة الإسلام السياسي تأجيج المشاعر ضد أميركا والغرب لأن المصلحة الاقتصادية لدول الربيع العربي في ظل حكم الإسلام السياسي تتطلب تعاوناً وتحالفاً مع الغرب وأميركا بخلاف السلفيين المتشددين الذين هم في المعارضة، ومن مصلحتهم إضعاف حكم الإخوان وتعكير الأجواء وتأجيج المشاعر ضد أميركا والغرب.

لذلك نجد أن ردود الفعل الإخواني اليوم تتسم بضبط النفس والدعوة إلى التهدئة وإيثار الحكمة والاتزان، بل حرص زعماء وقيادات الإخوان في مصر والخليج على تبرئة الإدارة الأميركية والقول إنها لا تتحمل مسؤولية الفيلم المسيء، كما حرصوا على ترديد: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، وتبرأ الرئيس مرسي من الهجمات على سفارات أميركا، وقدم التعازي في مقتل السفير الأميركي مؤكداً: أن قتل الأبرياء والعدوان يرفضهما الإسلام، وحرمة النفس عند الله تعالى أكبر من حرمة الكعبة.

ولهذا بعد أن دعا الإخوان إلى مليونية لنصرة الرسول سحبوا دعوتهم واكتفوا بمشاركة رمزية، وصرح رمز إخواني كبير بعد أن برأ أميركا بقوله "ردنا يجب أن يكون حضارياً"! سبحان ربي! يا مقلب القلوب والمواقف!

هذا ما كنا نقوله عبر عشرات المقالات الصحافية والمقابلات التلفزيونية من أن أضرار المقاطعة للبضائع الأميركية تفوق فوائدها وأنه لا مصلحة لنا في معاداة أميركا، ودفع شبابنا لقتالها والإضرار بمصالحها فكان الإخوان يقيمون الدنيا ولا يقعدونها تجاه أي إساءة غربية أو أميركية من أحمق موتور.

كنا ننادي بالحكمة والتعقل وردود الفعل الحضارية، فكانوا يتهموننا بالخيانة والعمالة! سبحان مقلب الأحوال فها هم اليوم ينادون بالرد الحضاري! اليوم إخوان الأردن وحدهم ينادون بالمقاطعة، لماذا؟ لأنهم ليسوا في الحكم! ترى ما المغزى العميق والكامن وراء هذه المواقف المتغيرة؟ مغزاه أن اختلاف الموقع السياسي لكل من الإخوان والسلف: سلطة ومعارضة، هو ما يفسر اختلاف ردود الفعل الإخواني عن السلفي تجاه الفيلم المسيء لا الشعارات المعلنة ولا المبادئ والنصوص الحاكمة.

5- إن "ثقافة الكراهية" هي المحرك الأبرز في دفع هؤلاء الموتورين لإنتاج هذا الفيلم للإساءة إلى المسلمين بدافع الحقد والكراهية اللذين لا يترسخان في نفسية مريضة، إن ثقافة الكراهية لا تختص بمجتمع أو جنس، ولا تقتصر على أتباع دين معين، إنما تختلف درجاتها وأشكالها من مجتمع إلى آخر كما تختلف المجتمعات في أساليب مواجهتها والحد من أضرارها.

فكلما كان المجتمع أكثر انفتاحاً على الثقافات الإنسانية وأكثر قبولاً للآخر كان أقدر على المعالجة، وعندما تنتشر ثقافة الكراهية بين جماعة فإنها تشكل "كراهيات جماعية منفلتة".

في المقابل عندنا: هؤلاء الذين اعتدوا على السفارات والقنصليات والمدارس والمطاعم وأتلفوا ودمروا وأحرقوا وتسببوا في قتل الأبرياء وسقوط الجرحى، وأحرقوا أعلاماً ورفعوا أعلام "القاعدة"، كما قتلوا السفير الأميركي الصديق للثورة الليبية ومن معه، كل هؤلاء أيضاً، قد حركتهم ودفعتهم كراهيات جماعية عمياء ومنفلتة، وإن عللوا بأنها رد فعل للإساءة إلى الإسلام لأن رد الفعل في الإسلام يجب أن يتقيد بالضوابط الشرعية المعروفة لدى الجميع فلا يمكن تبرير الإساءة بالإساءة شرعاً.

6- ما حصل يثبت بجلاء فشل وإخفاق كافة جهود ومحاولات ولقاءات ومؤتمرات الحوار بين الحضارات والثقافات والأديان على امتداد 10 سنوات، فقد أصبحنا اليوم في عصر الكراهيات الجماعية المنفلتة والمتبادلة.

* كاتب قطري