(1)
لا تسلني عن المدينة التي تغويك، المدينة التي تمنحك صدرها الناهد، وتفترش ظلال الكلمات، المدينة التي تنصب شراك مقاهيها المترفة، وتصطاد الأنفس البريئات، المدينة التي تلوّح بأعلامها، لا لشيء، وإنما لاصطياد الغرباء من أمثالك. جسرها النائم فوق البحر... صبيتها الصغار... دخان مصانعها النافث... وكهولها الذين يتوكؤون الكلمات... لا تسلني عن المدينة الفاتنة، التي تمنحك النقود، وبطاقات الائتمان، والمخدع المخاتل الوثير، المدينة التي تصطنع أمنياتك جيداً، وتلقي بأحلامك إلى مرمى الشمس، المدينة التي توزّع الورود في الطرقات، وتلوّن بماء النهر ابتسامات صبيتك الصغار. (2) لا تسلني عن المدينة الناهضة، السريعة، الجريئة، المُباغتة، التي تلوّح برأسك عالياً، وتدحرج، سني عمرك، إلى منتصف الثمانينيات... الثمانينيات التي لم يلتفت إليها أحد، الثمانينيات التي تتغلغل مثلما الهمس، في وجدان نهر رقيق، الثمانينيات التي تكوّمت، مثلما عصفور يعاني صقيع البرد، الثمانينيات التي تنفض عن ريشها، مثلما صقر جامح، جوّاب آفاق، الثمانينيات التي تعزفك لحناً، وتقتسم أوتارها دقات قلبك المترف الصغير. (3) ها هنا كنت يافعاً تلهو... يا اللللللله! كيف نهضت هذه المدينة الفاتنة، وافترش "السفلت" الأسود بطون الطرقات، كيف استبيحت حرمة "الهمس الأول" فتطايرت، غاضبة، ذرات الرمل، وآثار الخطو، والعتبات المتدرّجة، ولمسات الأصابع، أطراف الأصابع – تحديداً- عند الرحيل. الصوت الجريح كان يُغني، رسمه المعلق عند مدخل اللحن، وفي واجهة الطرقات، يسبق اللحن، ويعيد تشكيل المكان: "ظماااااااااااي أنت... ومن يعشق ظماه غيري جرووووووحي أنت... ومن يكره دواه غيري اسقني لو ما ارتويت داوني لو ما شكيت ما هقيت أني أعطش في حياتي لغيرك أنت ما دريت انه ما به اغلا منك إلا أنت" (4) يا اللللللله! كيف نهضت هذه المدينة الفاتنة؟ كيف جَحَدت هذه المدينة الفاتنة؟ كيف تُعصى الأماني، وتلوى أذرع الكلمات؟ (5) ها أنت من جديد، تعود غريباً كما كنت، لا تلوي على شيء، ولا تحضن قلبك المسافات، ها أنت من جديد، تقلّب دفاترك القديمة، وتستعيد، كما فنان مفلس، آثار الفرشاة القديمة، وتشكّلات الرسم الأول... حين كنت تمضي سعيداً، لا تلوي على شيء، ويسبق قلبك الخطو المتوّثب.
توابل - ثقافات
كيف نهضت هذه المدينة؟!
03-06-2012