لم يكن أحد يتصور أن تقود ثورة يناير مصر إلى مثل هذا الوضع؛ إذ كانت الثورة حين انطلقت تنزع نحو الحرية والحداثة وتقدر الإبداع والمبدعين، وقد كان هذا جلياً لكل من مر بـ«ميدان التحرير» حيث ازدهر الفن مطوعاً إمكاناته لتصليب الثورة وإلهامها، وانخرط مئات المبدعين في الفعل الثوري بإبداعهم وبفعلهم السياسي المجرد في آن.

Ad

في شهر نوفمبر من العام الماضي، عقد حزب "النور" السلفي المصري مؤتمراً انتخابياً في مدينة الإسكندرية، عشية الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي اكتسح الإسلاميون نتائجها، وقد تصادف أن كان مقر هذا المؤتمر في أحد الميادين المزينة بتمثال بديع يسمى "حوريات البحر"؛ وهو تمثال يجسد عدداً من الحوريات الجميلات، اللائي يبدو أن مظهرهن ضايق المنظمين، فما كان منهم إلا أن غطوا التمثال بأردية سوداء "اتقاء للإغراء وطلباً للاحتشام".

لم يشعر كثيرون بالأسى جراء هذا الفعل على فداحته؛ إذ هيمن انطباع هزلي على ردود الفعل التي علقت عليه، واعتبر محبو الفن والليبراليون والجماعات المدنية عموماً أنه سوء فهم عميق للحالة الفنية التي أنتجت التمثال، وعدم إدراك لآليات التلقي الفني لدى هؤلاء القادمين الجدد لعالم السياسة، ووصف آخرون الفعل المثير للجدل بأنه "حالة تنطع".

لكن حدث لاحقاً أن تحدث الناطق باسم الدعوة السلفية في الإسكندرية، المهندس عبد المنعم الشحات، في أحد البرامج التلفزيونية، في شهر ديسمبر الماضي، عن نجيب محفوظ، وهو الأديب المصري العالمي الحائز جائزة نوبل، والذي يحظى باعتبار كبير بين أوساط واسعة من المصريين، فوصف أدبه بأنه "يشجع على الفجور والرذيلة".

ولم يقف الشحات عند هذا الحد فقط، بل إنه انتقد مجمل الإبداع الفني المصري، معتبراً أن "أطفالنا تعلموا تعاطي المخدرات من الأدب والسينما"، وهو الأمر الذي عكس رؤية هذا القيادي الإسلامي الكبير للفن وما يجب أن يقدم من خلاله.

في نهاية شهر مارس الماضي، زار مرشد جماعة "الإخوان المسلمين" الدكتور محمد بديع إحدى المحافظات المصرية، وتحدث إلى جماهير محتشدة في مؤتمر أقامته الجماعة للترويج لمرشحها في الانتخابات الرئاسية المنتظرة في شهر مايو المقبل.

ومن بين ما قاله المرشد في هذا المؤتمر إن "بعض وسائل الإعلام مثل سحرة فرعون، الذين جمعهم لسحر أعين الناس، والشيطان الذى أوحى للسحرة هو الذى يوحى للإعلاميين الآن بأن يصوروا للشعب أن (الإخوان) هم بديل (الحزب الوطني)".

تلك مقاربة خطيرة فعلاً للشأن الإعلامي وللجماعة الإعلامية في آن، وفضلاً عن ذلك؛ فإن الحديث الذي يبدأ بذكر "الشياطين"، يمكن أن ينتهي بالإشارة إلى ضرورة وجود "الملائكة" التي ستتخذ الإجراءات اللازمة لتصحيح "الأوضاع الشيطانية" المنتقدة. وسيكون من الصعب جداً بالطبع الوقوف في وجه تلك الإجراءات التي ستتخذها "الملائكة"، لأن من سيعارضها آنذاك فإنما سيكون معارضاً لـ"إرادة ربانية"، حتى لو انطوت على حجب أو منع أو تقييد أي عمل إعلامي، ناهيك عن معاقبة هؤلاء الذين "يوسوس لهم الشيطان" من الإعلاميين بالعقوبات المناسبة.

ولذلك، يمكن تفهم الأنباء المتواترة عن تبني ممثلي الجماعات ذات الإسناد الديني في البرلمان المصري مشروعاً لإصدار قانون "يحد من حرية الإعلام والإبداع والفن"، وهو الأمر الذي استنفر جماعات الفنانين والمبدعين، وقادهم إلى إنشاء "جبهة حماية الإبداع"، وهي الجبهة التي نظمت مسيرة من دار الأوبرا، وسط القاهرة، إلى مقر مجلس الشعب، في شهر يناير الماضي، لمطالبة النواب بصيانة حرية الفن وعدم تقييده.

لم يكد يمر على هذه الحوادث أسابيع قليلة، حتى طالب نائب سلفي في البرلمان بـ"منع تدريس اللغة الإنكليزية لتلاميذ المدارس"... وأخيراً، فقد رشحت أنباء، قبل يومين، عن قيام جماعة "الإخوان المسلمين" بإعداد مشروع قانون للجرائم المعلوماتية "منقول نصاً من نظيره السعودي".

يمكن بالطبع اعتبار أن تلك الحوادث تعبر عن تيار سياسي معين، يريد أن يرسخ وجوده في أوساط ناخبيه الذين يتسمون بسمات ثقافية واجتماعية واقتصادية محددة، أو يحاول شغل المسرح السياسي بممارسات سهلة ومثيرة للجدل، عوضاً عن الانشغال بمشكلات البلاد الحقيقية، وهو الانشغال الذي يستلزم وجود خبرات سياسية وفنية معينة، لا يبدو أنها متوافرة على أي حال.

لكن تطوراً خطيراً طرأ، عمق المخاوف من أن مصر تشهد تراجعاً حقيقياً عن مآثر ومناقب محدودة ما زالت تتمتع بها إلى حد ما، وعلى رأسها بالطبع مساحة الحرية الفنية والإبداعية والاجتماعية، التي تمنحها قدراً من القوى الناعمة، بعدما فقدت معظم قواها الصلبة، بفعل عقود الهدر والفساد التي عاشتها تحت حكم مبارك، وشهور الارتباك والخلل التي ميزت فترة ما بعد إطاحته.

ففي الأسبوع الماضي، قضت محكمة مصرية بحبس الفنان الكوميدي عادل إمام ثلاثة أشهر، وتغريمه 100 جنيه مصري (17 دولاراً أميركياً) لإيقاف التنفيذ لحين استئناف الحكم، بتهمة "إزدراء الدين الإسلامي"، من خلال عدد من أعماله السينمائية، التي أنجزها في فترات سابقة.

الإشكال الكبير أن الدعوى تم رفعها من محام عادي، اعتبر أنه تضرر كمسلم جراء أعمال عادل إمام، التي جسد فيها بعض الإسلاميين في صورة سلبية؛ ضارباً المثل بشرائط مثل "الإرهابي" و"الإرهاب والكباب" و"طيور الظلام"، وغيرها، وهي أعمال انتقدت "التدين الشكلي" و"الاستخدام المسيء للدين في السياسة".

أمّا الإشكال الأكبر، فيتعلق بفتح الباب أمام الدعاوى غير المباشرة التي يمكن أن تستهدف عشرات الأعمال ومئات الفنانين، والتي يمكن أن تحاسبهم أيضاً على أعمال قدموها قبل عشرات السنين... وأخيراً ما يمكن أن يسببه هذا التوجه من فرض قيد شديد على حرية الفن والإبداع، وإبقاء السيف مصلتاً على رقبة الفنانين.

لم يكن أحد يتصور أن تقود ثورة يناير مصر إلى مثل هذا الوضع؛ إذ كانت الثورة حين انطلقت تنزع نحو الحرية والحداثة وتقدر الإبداع والمبدعين، وقد كان هذا جلياً لكل من مر بـ"ميدان التحرير" خلال الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير من العام الماضي، حيث ازدهر الفن مطوعاً إمكاناته لتصليب الثورة وإلهامها، وانخرط مئات المبدعين في الفعل الثوري بإبداعهم وبفعلهم السياسي المجرد في آن.

يبدو أن مصر مهددة بانتكاسة تصيب حرية الفن والإعلام والإبداع، وأن تلك الانتكاسة لا تظهر فقط في البرلمان والشارع السياسي، ولكنها تتسع لتشمل وسائط أخرى في المجتمع، وهو أمر خطير، قد يأخذها، بعد ثورة أبهرت العالم وأدهشته، إلى الخلف عوضاً عن أن يقفز بها إلى الأمام.

* كاتب مصري