الاقتراح بقانون الذي أقره مجلس الأمة في المداولة الأولى، والذي يعاقب بالإعدام أو الحبس المؤبد كل من طعن علناً أو في مكان عام في الذات الإلهية وفي الأنبياء والرسل، وفي أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام، يحتاج إلى وقفة نضع فيها النقاط فوق الحروف حول العقاب ووظائفه المتعددة، وما اختاره المشرع منها، والشريعة الإسلامية والحدود وجرائمها وأحكام الدستور المرتبطة أو المتصلة بهذا الاقتراح.

Ad

النقطة الأولى: حماية العدالة من غضب المشرع

وفي البحث عن وظائف العقوبة، تطل علينا جريمة الإساءة إلى الذات الإلهية أو بالأنبياء والرسل أو بزوجات الرسول عليه الصلاة والسلام، باعتبارها ليست جريمة قذف أو سب عادية، بل باعتبارها إثماً كبيراً يصطدم بالشعور الديني في الجماعة من ناحية، ويثير في نفوس الناس كثيراً من مشاعر الألم والحزن والأسى من جهة ثانية، بل وشعور البغضاء والكراهية ضد من ارتكب هذا الفعل من جهة ثالثة.

ومن هنا جاء الغلو في هذه العقوبة وقسوتها تعبيراً عن كل ذلك، وانفعالاً بكل هذه المشاعر.

وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام "لا يقضي القاضي وهو غضبان".

ويصدق ذلك ومن باب أولى على السلطة التشريعية وهي تشريع القوانين، لأنه إذا كان القاضي يحكم في قضية بعينها وهو عضبان، بما يختل معه ميزان العدل في قضية بعينها، أما القانون الذي تشرعه السلطة التشريعية، والذي يلتزم القاضي بتطبيقه، سيكون مصلتاً على رقاب العباد كافة، بما يختل معه ميزان العدل في كل القضايا التي تطرح على المحاكم، إذا كان المشرع قد أقر القانون بهذه العقوبة الممعنة في القسوة، منفعلاً بمشاعر الغضب من هذا الإثم العظيم الذي يقع فيه من يسيئ إلى الذات الإلهية أو الأنبياء أو الرسل أو زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام.

"النقطة الثانية": مخالفة المادة الثانية من الدستور

ولعل هذا الغضب والانفعال بهذا الفعل الآثم هو الذي غُيب عن مشروع ما نصت عليه المادة الثانية من الدستور من أن "الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع"، حيث تنقسم الجرائم من حيث جسامة العقوبة إلى حدود، وقصاص أو دية، وتعازير.

وجرائم الحدود وردت على سبيل الحصر في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومنها جريمة القذف، المقرر لها في الشريعة الإسلامية عقوبتان: إحداهما أصلية وهي الجلد، والثانية تبعية وهي عدم قبول شهادة القاذف.

وهو ليس رأينا، بل رأي ننقله عن عالم كبير وأستاذ لا يشق له غبار في التشريع الجنائي الإسلامي، واستشهد في سبيل الدعوة الإسلامية وهو الدكتور عبدالقادر عودة، ننقله من كتابه "التشريع الجنائي الإسلامي- طبعة مؤسسة الرسالة- ص79 و645 و646".

والحدود وجرائم الحدود لا يجوز التوسع فيها، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام "ادرؤوا الحدود بالشبهات"، فإذا كانت جرائم الحدود، التي ورد النص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية، جرائم تدرأ الحدود فيها بالشبهات، فمن باب أولى، لا يجوز التوسع في جرائم الحدود، وتطبيق الحدود على جرائم لم تشرع لها أصلاً في كتاب الله وسنة نبيه.

وليس في ذلك مساواة قدر المولى عز وجل وقدر أنبيائه ورسله وزوجات الرسول بقدر عامة الناس في جرائم القذف، بل هو اعتراف منا بعلو قدر الله وأنبيائه ورسله وأمهات المؤمنين، عن أن تلوكها المحاكمات في ساحات المحاكمة العلنية، وسداً للذرائع عندما تتخذ عقوبة الإعدام التي توقع في هذه الجرائم ذريعة لأعداء الإسلام للنيل من سماحته، ذلك أن المولى عز وجل وأنبياءه ورسله في غنى عن كل ذلك، فهو سبحانه "الحي القيوم" و"ليس كمثله شيء"، "ولم يكن له كفوا أحد"... إلخ من أسماء الله الحسنى ما ورد منها في القرآن وما ورد منها في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي الأسماء التي بلغ عددها تسعة وتسعين اسماً، قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنها "من أحصاها دخل الجنة"، أما من أنكرها أو شكك في صحتها، فإن فعله يكون مؤثماً لدى الخالق عز وجل، هو سبحانه "عزيز ذو انتقام"، "وهو الذي يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات"، "فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين"، "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"... صدق الله العظيم.

"النقطة الثالثة": في تخفيف العقوبة

ولعل الانفعال بهذا الإثم الكبير والغضب، الذي سيطر على مشاعر أعضاء مجلس الأمة عند إقرارهم لهذا المشروع في المداولة الأولى، هو الذي أوقع المجلس في خطأ تشريعي، عندما واجه مشروع القانون الظروف التي ترى المحكمة فيها أن المتهم جدير بالرأفة، وهي الظروف التي واجهتها المادة 83 من قانون الجزاء بقاعدة عامة بأن أتاحت هذه المادة للمحكمة أن تستبدل بالعقوبات الأشد عقوبات أخف.

ذلك أن المشروع لم يفطن إلى أن المادة 83، عندما وضعت حدوداً مختلفة للنزول بالعقوبة الأشد إلى عقوبة أخف، بحسب درجة الشدة التي تتفاوت فيها العقوبات من جريمة إلى أخرى، إنما كانت تضع قاعدة عامة تسري على الجرائم كافة.

ولم يفطن المشروع إلى ذلك، بل انساق وراء الصياغة المحكمة للمادة 83 سالفة الذكر والقياس مع الفارق، ليقرر حظرين:

الحظر الأول: هو أنه لا يجوز للمحكمة أن تستبدل بعقوبة الإعدام سوى عقوبة الحبس المؤبد.

الحظر الثاني: هو أنه لا يجوز للمحكمة أن تستبدل بعقوبة الحبس المؤبد سوى عقوبة الحبس المؤقت الذي لا تقل مدته عن عشر سنوات.

وكأن المشروع أمام جريمتان، وليس أمام جريمة واحدة مقرر لها عقوبتان هما الإعدام أو الحبس المؤبد، بحيث تستطيع المحكمة أن تحكم بعقوبة الحبس المؤبد، بغير حاجة إلى أن تستخدم الرخصة المقررة لها في المادة 83، الأمر الذي يبدو الحظر معه لغوا ينزه عنه المشرع.

أما الحظر الثاني نفسه، فهو يفترض أن المحكمة كونت عقيدتها في اختيار عقوبة الحبس المؤبد، ورأت أن المتهم جدير بالرأفة، فلا يجوز لها أن تستبدل بهذه العقوبة، سوى عقوبة الحبس المؤقت الذي لا تقل مدته عن عشر سنوات، فهو حظر يدخل في نوايا المحكمة، بما يجعله كذلك لغواً ينزه عنه المشرع.

وللحديث بقية حول مخالفة المشروع بقانون سالف الذكر لأحكام أخرى للدستور.