في شهر أكتوبر الماضي، كانت مصر تحتفل بالذكرى الثامنة والثلاثين لانتصار 1973، حيث أجرى المشير طنطاوي، بصفته آنذاك وزير الدفاع، ورئيس المجلس العسكري، والحاكم الفعلي للبلاد، مؤتمراً صحافياً مصغراً للرد على تساؤلات الإعلاميين والصحافيين؛ والتي كان من بينها سؤال عن "الوضع الأمني في سيناء".

Ad

رد طنطاوي بسرعة على السؤال قائلاً: "الوضع الأمني في سيناء 100%"، وهنا تدخل أحد الوزراء بالقول: "يعني الوضع مطمئن"، لكن المشير انفعل بحدة، ورمقه شزراً، مؤكداً: "باقول 100%... مش مطمئن".

يوم الأحد الماضي ظهر بوضوح أن الوضع الأمني في سيناء ليس "100%" كما قال طنطاوي، وليس أيضاً "مطمئناً" كما قال أحد وزرائه في محاولته لجعل الإجابة "أقل ابتعاداً عن الواقع"... فقد ثبت أن الواقع غير مطمئن على الإطلاق، وينذر بأوخم الكوارث، إذ شن مسلحون هجمة مدروسة على وحدة حراسة مصرية، فقتلوا 16 ضابطاً وجندياً، وأصابوا سبعة آخرين، قبل أن يخطفوا مركبتين، ويقودوا إحداهما إلى داخل قطاع غزة، لتتعامل معهم القوات الإسرائيلية بمهارة واحترافية، فتقتلهم جميعاً، وتسلم جثثهم "متفحمة" للمصريين.

يشاهد مئات الآلاف من المصريين هذا المؤتمر الصحافي باطراد على "يوتيوب"، وتتوالى تعليقاتهم منتقدة "الثقة المفرطة" التي أبداها المشير في حديثه عن الوضع الأمني في سيناء، ويقارنون على الفور بين تلك الثقة، وما أكدته عملية رفح الإرهابية من انفلات أمني رهيب يهدد بمزيد من الكوارث.

ينتقد بعض الناشطين أيضاً الطريقة التي تحدث بها طنطاوي، والتي أظهرت إلى جانب "الحدة وضيق الصدر"، درجة واضحة من عدم التركيز في اختيار الكلمات، فضلاً عن سهولة العثور عليها... ولذلك، فقد تدخل رئيس الأركان، والرجل الثاني في المجلس العسكري الفريق سامي عنان كثيراً ليهدي المشير الكلمة التي يجب أن يقولها إذا أرهقه العثور سريعاً عليها.

بدأ طنطاوي حياته العسكرية المشرفة مبكراً جداً، حيث قاتل في حرب 1956، كما خاض حربي 1967 والاستنزاف، قبل أن يقود كتيبة في حرب أكتوبر 1973، ويبدي شجاعة ويبلي بلاء حسناً فيها؛ لذلك قد يكون مفهوماً ومقبولاً، بفعل توالي الأزمنة وتراكم المحن، أن يتعثر في إيجاد الكلمات المناسبة للتعبير عن مقاصده، لكن ما لا يمكن فهمه أن يكون تقييم رأس الدولة للوضع الأمني في سيناء على هذه الدرجة البعيدة كل البعد عن الواقع الكارثي هناك.

على أي حال، فقد اتخذ الرئيس مرسي قرارات "بدت في غاية الحدة"، واستقبلها الوسط السياسي "الإسلامي والليبرالي" بكثير من التأييد والارتياح؛ فقد أحال رئيس جهاز الاستخبارات اللواء مراد موافي إلى التقاعد، وبدّل محافظ شمال سيناء، وقائد الحرس الجمهوري، ومدير الشرطة العسكرية، ومسؤولين أمنيين آخرين.

لم يوضح مرسي أو الناطق باسمه للرأي العام الأسباب المحددة لإطاحة تلك القيادات من مناصبها، لكن فُهم على أي حال أن قائدي الحرس الجمهوري والشرطة العسكرية أطيحا لـ"إخفاقهما" في تأمين جنازة "شهداء رفح"، ما أدى إلى غياب الرئيس عن حضورها من جهة، والاعتداء على مسؤولين وسياسيين بارزين، من بينهم رئيس الوزراء، خلالها من جهة أخرى.

وفُهم أيضاً أن إقالة رئيس الاستخبارات سببها أنه صرح للصحافة بأن جهازه "أمد الجهات المسؤولة بمعلومات تفصيلية عن حادث رفح"، وأن الاستخبارات بريئة من التقصير، لأنها "جهاز جمع معلومات وليست جهة تنفيذية أو قتالية".

بلغة السياسة، يبدو أن اللواء موافي "غسل يده وبرأ نفسه من التقصير وحمّل آخرين المسؤولية عن الحادث"، وبلغة العسكرية فإنه قد يكون "تخلى عن رفقاء السلاح". لذلك، بدا أن مرسي وطنطاوي اتفقا على إطاحة موافي، وليست تلك هي المرة الأولى التي يتفق فيها المجلس العسكري مع جماعة "الإخوان المسلمين" على مسائل حيوية منذ اندلعت ثورة يناير، لكن الشبان الذين أشعلوا تلك الثورة، والطبقة السياسية المدنية التي ناضلت من أجلها لعقود عديدة، ستجد صعوبة شديدة في اتفاق الرئيس والمشير على أن التقصير الذي وقع في رفح لا يتحمله سوى موافي، ذلك الرجل الذي يرأس جهازاً مهمته جمع المعلومات وتقديمها للرئيس والمشير لاتخاذ الإجراءات الفعلية المناسبة إزاءها.

لقد استفاد طنطاوي في الفترة التي أعقبت إطاحة مبارك مباشرة من التفاف سياسي حول دوره على رأس المجلس العسكري لعبور المرحلة الانتقالية بالبلاد، لكن الشارع بدأ ينقلب عليه حينما لاحظ أنه يعتمد وسائل "الحزب الوطني" المنحل نفسها لإعادة إنتاج الأوضاع السابقة. واستفاد مرسي من دعم شعبي كبير عشية انتخابه وغداة تنصيبه لأنه تأكيد على هزيمة النظام السابق وانتصار للثورة في مواجهة شفيق "مرشح الفلول"، لكن الشارع بدأ ينقلب ضده حين لجأ إلى ذات الممارسات القديمة في التعامل مع المشاكل والأزمات، وحين ظهرت رغبة جماعته في محاولة "أخونة الدولة".

يبدو أن التحالف بين مرسي وطنطاوي في أزمة "التغطية على المسؤول الحقيقي عن مجزرة رفح" لن يجمع مؤيدي المجلس العسكري على مؤيدي جماعة "الإخوان" وراء "نظام الرأسين"، ولكنه سيجمع كل الناقمين والساخطين على الأداء الأمني والسياسي المتردي تجاه سيناء في موقع المعارضة للجانبين.

يوم الخميس الماضي، وصلت سلسلة انقطاعات الكهرباء عن أماكن البلاد المختلفة ذروتها، حين انقطع التيار عن معظم مناطق العاصمة وعدد آخر من المحافظات، فتوقفت الحياة تقريباً، وتعرضت مرافق حيوية كثيرة للخطر. تتوالى انقطاعات الكهرباء والمياه عن معظم المناطق والأحياء، وتتفاقم مشكلات الصرف، ويستفحل الانفلات الأمني، وتتزايد الوقفات الاحتجاجية، ويتحول "قطع الطرق" إلى رياضة شعبية تقليدية تمارس على مدار الساعة... وقد بدأ الجمهور يضجر ويفقد الأمل. لم يحقق الرئيس مرسي بعد مرور 40 يوماً على توليه مهام منصبه أي إنجاز حقيقي ملموس، بل إن الأوضاع ساءت أكثر كما يقول نقاده وبعض مؤيديه. لقد عوّل هؤلاء المؤيدون كثيراً على التعلل بأن "المجلس العسكري" يستأثر بالسلطة أو يتقاسمها أو يصارع عليها، وها هو المجلس العسكري يخفق في ملف أساسي يقع ضمن مهامه الرئيسة، وبدلاً من ذلك، فإن مرسي يكتفي بإقالة رجل قال إنه "أبلغ المسؤولين بما لديه"، بما يعني ضمناً أنهم "قصروا في أداء مهمتهم".

في معظم التظاهرات والهبات والحركات الاحتجاجية التي شهدتها مصر منذ اندلاع ثورة يناير، كان المتظاهرون يعينون مقصداً للغضب والاستهداف، ويبلورون مطالب، ويساندون أحد الفرقاء آملين في قدرته على تلبية تلك المطالب.

لكن الاحتجاجات الأخيرة تشهد ميلاً أكبر للعنف، ولا تخاطب مسؤولاً محدداً، ولا تميز بين "أخيار" و"أشرار"، وتتكاثر كالفطر... إنها احتجاجات أكثر حدة وخطورة من طبقات ساءت أحوالها بعد الثورة ولم تتحسن كما كانت تأمل.

إذا لم تُحسم السلطة في مصر لرأس واحد، يعمل على حل مشاكل الناس ويتحمل المسؤولية عن العجز والإخفاق، فإن الهبة المقبلة قد تكون واسعة وكارثية، وقد تستهدف الدولة المصرية ذاتها وليس حزباً أو جماعة أو سلطة، وهو أمر، لو تعلمون، جلل.

* كاتب مصري