الأقليات والتباس المفهوم
ترتبط فكرة التعددية الثقافية بعوامل ذات بعد اقتصادي واجتماعي في الآن ذاته، ورغم أن الدول الأوروبية كانت سباقة في تشريع قوانين منصفة لهذه الفئة أو تلك، ممن تنطبق عليها فكرة الأقلية، فإن هلامية المفهوم ذاته، وعدم اتضاحه يمنحان فرصة للتلاعب، أو سلب حقوق الفئات المستضعفة، في مسعى نحو تكريس، الفكر الأحادي، والهيمنة المادية، وهي عصب الصراع، ولبه في مجمل القضايا المثارة، إن لم يكن جميعها. وهو الأمر الذي يستند إليه البروفيسور ويل كيمليا في كتابه "أوديسا التعددية الثقافية"، إذ يستنطق في هذا الكتاب جوانب الصمت في السياسات الأوروبية المعاصرة، خاصة تلك المتعلقة منها بالأزمة العرقية في البلقان والقوقاز، في ما بعد الشيوعية، وبحسب كيمليا فإن "الديمقراطيات الغربية أدركت حين مواجهتها تلك الأزمة أوائل التسعينيات أن عليها القيام بعمل ما، وبناء عليه قررت تدويل معالجة مشكلة الأقليات في كل أوروبا، فأعلنت على لسان منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في عام 1990 أن حالة الأقليات القومية ومعالجتها تدخلان ضمن الاهتمامات الدولية المشروعة".يناقش كيميليا في كثير من أبحاثه مشكلة الأقليات القومية، والعرقية والتعددية الثقافية وتتخذ أبحاثه من المجتمعات الغربية أنموذجا للتحليل الثقافي/ السياسي، إلا أن البعد الاجتماعي للأوطان العربية هو الآخر يفتقر إلى التحليل والقراءة المتعمقة، فما من بلاد مزقت أو قُطعت أوصالها، كما هو الحال مع خارطة الوطن العربي، التي تبدو وكأنها ثوب مرقّع، ممزق الأشلاء، لأمة ذات لغة واحدة، أو دين واحد.
ويمكن أن تنسحب إشكالية المفهوم على الأوطان العربية، فقضية التصنيف الثقافي أو العرقي تأخذ أشكالاً أكثر وضوحاً، كما أن "تعقيد" التجنيس في الأوطان العربية، حتى الفقيرة منها، يجعل من مسألة اندماج الأقليات في الأوطان العربية المهاجَر إليها أكثر صعوبة وتعقيداً، والأمر هنا يقتضي ملاحظة أن فكرة الأقليات ليست منحصرة على "الكثرة العددية"، بقدر ما هي مفهوم ينطبق على معضلة "التهميش" الثقافي والاجتماعي، ومثال ذلك "الوافدون"، رغم تحفظنا عن المسمى، يعتبرون أقلية في أوطان خليجية مثل الكويت، والإمارات، وقطر، رغم أنهم من حيث الكثرة العددية يفوقون أضعاف مواطني تلك الدول، فهم هنا أقلية لأن مراكز صنع القرار، ومنابع توزيع الثروة، ليست بأيديهم، ومواطنو تلك الدول يعتبرون أكثرية، رغم قلتهم العددية.وضمن نقاشه لفكرة الأقليات وإشكالياتها يشير الباحث د. إبراهيم علوش إلى مفارقة تكاد تكون مطابقة أو مشابهة للمفارقة الخليجية المشار إليها، وهي المتمثلة في مفهوم الأقلية في الولايات المتحدة، فقد وجدت دراسة أعدها أن فئة الأكثرية في الولايات المتحدة تنطبق على "فئة الرجال البيض البروتستانت، ذوي الأصل الأنغلوسكسوني، من الفئة العمرية المتوسطة"، وهنا يضع علوش إطارات عدة لتصنيف مفهوم الأكثرية من حيث تملك مراكز القوى، وصنع القرارين السياسي والاقتصادي، فهؤلاء الرجال البيض يصنعون القرار، ما يجعل فئات أخرى مثل السود، والملونين، وحتى النساء، أياً كان لونهن، يأتين في المرحلة الخلفية من تملّك زمام الأمور.أما البروفيسور ويل كيمليا فإنه يشير إلى مسألة أخرى ذات صلة بموضوع الأقليات، وهي المتمثلة في التفريق بين مصطلحي "الأقليات القومية" و"السكان الأصليون"، فهذا المصطلح الأخير ظهر "في محيط دول العالم الجديد الاستيطانية، ويشير إلى السلالات التي تحدرت من السكان غير الأوروبيين الأصليين في أراض استعمرتها، واستوطنتها قوى أوروبية". ومثال ذلك السكان الأصليون في أميركا وأستراليا. ورغم أن مصطلح "الأقليات القومية" منطلق هو الآخر من الفضاء الأوروبي، خاصة بعد تشكل الدول الحديثة، فإن هذا المصطلح يبدو أكثر تجذرا في الأوطان العربية المنقسمة على نفسها من حيث حقوق الأقليات المقيمة لديها.