قد يبدو للمتأمل في هذه المرحلة من حياتنا الراهنة حجم المأزق الذي تواجهه البحوث العلمية والتوثيقية على وجه الخصوص، في ظل تصاعد النعرات الطائفية والقبلية والحزبية من جهة، وغياب دولة المؤسسات وثقلها السياسي والقانوني من جهة أخرى. ونعني بالبحث العلمي والتوثيقي في هذا المقام كل جهد بحثي في مجال العلوم الإنسانية كالآداب والتاريخ والتراث والسير الذاتية، يلتزم الشروط المنهجية المتعارف عليها في البحوث العلمية الموثقة أو المحكمة.

Ad

إن المتابع لحال الأوضاع الراهنة يقلقه ولاشك ما يتعرض له أمثلة هذه الجهود البحثية من ضغوط ومجابهات، فضلاً عن التعتيم والتضييق على المشتغلين بها أو تعرضهم للمحنة والبلاء. رأينا ذلك في أمثلة وشواهد عديدة، هُدّد فيها من هُدّد وطورد فيها من طُرد في أمنه وسمعته، وسيق فيها من سيق إلى محاكمات وقضايا جائرة بسبب الإشارة إلى وثيقة أو نشر صورة تاريخية أو عرض سجل لحياة أو ميراث فكري أو إبداعي. وهذه أمور لا يجوز أن تحدث في مجتمع يتأسس على ركائز دستورية لها من قوة القانون وهيبته ما يحفظ أمن الأفراد من جهة، ويضمن ازدهار المجتمع ونموه الحضاري من جهة أخرى.

لعل التأمل في هذه الواقع المقلق يدعو إلى محاولة تلمّس الخلل في ما يحدث، والاجتهاد في تفنيد أسباب المأزق التي تتعرض له تلك الأبحاث التوثيقية:

• يأتي على رأس هذه الأسباب غموض العلاقة وضبابية الصلة المهنية بين الباحث والمؤسسة التي ينتمي إليها، وهي غالباً صلة يحكمها عُرف غير مكتوب أو موثّق، فالباحث رغم انتمائه في أغلب الأحيان إلى مؤسسة ثقافية أو علمية أو أكاديمية، سواء بالتعيين أو بالتمويل أو بالتكليف، فإن المؤسسة في حالة تعرض الباحث لأي ضرر أدبي من جهات خارجية وثبوت التعسف في هذا الضرر، فإنها غالباً ما تلتزم الصمت والتجاهل. هذا إن لم تساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في التبرؤ من الباحث وتقديمه لقمة سائغة للمناوئين والمتصيدين، متجاهلة بذلك أهم أقانيم المؤسسة، وهو قيام أبحاثها على الموضوعية العلمية، واستشارة المظان والمصادر، وخضوع الأبحاث في عمومها للتحكيم العلمي الموثق.

ولعل هذا المأخذ هو ما يفتّ في عضد المؤسسات الثقافية والعلمية عندنا ويقلل من الثقة بها وبمنجزاتها، الأمر الذي يستدعي معه استصدار قانون أو ميثاق أخلاقي مكتوب يحفظ حقوق الباحثين وكراماتهم وأمنهم الوظيفي والنفسي، ويساعدهم على العمل في أجواء آمنة ومشجعة. وهذا يتطلب إلى جانب توفر النص القانوني وجود هيئة من المحامين والاستشاريين القانونيين يكونون في خدمة المؤسسة وأعضائها، وعوناً لهم في تنفيذ أهدافها وفلسفتها.

• أما ثاني المعوقات التي تقف حجر عثرة أمام حرية البحث العلمي والتوثيقي، فلعله يتمثل في غياب استقلالية المؤسسة العلمية وغياب استقلالية خططها وأهدافها وقراراتها، إذ إنه من البدهي أن لكل مؤسسة أقانيم ومرتكزات يتم من خلالها التخطيط والتنظيم واتخاذ الأسباب والخطوات الموصلة للأهداف والسياسات المعتمدة. الأمر الذي يغدو فيه أي تدخّل أو فرض لرؤية أخرى مخالفة أو مغايرة للأهداف والخطط من خارج المؤسسة أمر معرقل وكابح للتطلعات والأهداف، إن لم يصبح من دواعي الفوضى والبلبلة.

والمتأمل منا لأوضاع مؤسساتنا العلمية يدرك كم هي كيانات مشاع وهيّنة أمام التدخلات الخارجة عن جسمها المؤسساتي، يخوض في شأنها الخاص من يخوض من ساسة ونواب ودعاة وواعظين وحتى محرري الصحف اليومية والعوام! والأعجب أن لغطهم كثيرا ما يُصغى إليه ويؤخذ مأخذ الجد وتُتّخذ إزاءه قرارات وتدابير! الأمر الذي يشير إلى هشاشة بناء المؤسسة وسهولة تسييرها وإخضاعها للمؤثرات الوقتية والإحداثيات، لا تمثيلها للثابت والباقي من الرؤى والقيم المؤسساتية الراسخة.