هل من الممكن أن يُختصر العالم في مساحة شُرفة أو بلكونة؟

Ad

في لبنان يمكن أن يحدث ذلك، فأنت في شرفتك الجبلية يمكن أن تمتلك الدنيا، وهذا يعتمد طبعاً على مقدار حاجتك من دنياك: صباحات منعشة تستيقظ من وراء الوادي مرتدية عباءة ضبابها، أو مترائية من خلال غلالات الشيفون، لتشفّ عند خط الأفق ونواحي الوادي عن بيوت كبيوت الدمى بريئة ونظيفة ومجللة بالوداعة. تجتاز باب البلكونة فيكون في استقبالك هواء الجبل، يهب على وجهك وأعطافك ويلعب بمشاعرك ويتغلغل في حناياك، ويكاد يبكيك من فرط العذوبة واللطف، ويأخذك معه إلى الجنة!

حين يشتدّ الضوء وينصل من لون الفانيليا الكريمي يأتي موعد القهوة، فتُسكَب في فنجانك مزهوة بالرغوة الفائرة والنكهة الأليفة، وحينها لا تملك إلا أن ترتشف وتصمت، ثم تغرق في المزيد من الصمت الآسر وتتأمل، تسترخي، تذهب في غفوة من النشوة أو الشجن اللذيذ، تعانق وحدتك المفعمة بالرضا وتعيش اللحظات بجوارحك وتنسى من أنت! إذ لم يعد من قيمة أو معنى لشخصك الضئيل في هذه الحضرة الروحانية الآسرة.

البيت الصيفي في لبنان عادة ما يكون على شاكلة براءة الجبل وخفة الهواء، بسيطاً في أثاثه متقشفاً في مظهره ومحتواه. يمر الوقت بين جنباته بإيقاع مختلف، لكأن اليوم غير اليوم، ولكأن الساعات بلا ثقل أو انتظار، ولكأن الوقت بلا عمر، ولكأن العمر بلا أوزار وخطايا، ولكأن الخطايا بلا ندم. فأنت هنا -على حافة هذه الوادي المبارك- تعود بريئاً خفيفاً كما ولدتك أمك!

في البيت الصيفي في لبنان تكون البلكونة هي الكفّ الذي يحملك إلى السماء، هي رئتك وقلبك ومتعة نظرك وجناحك الذي به تطير. وحين يحضر البنفسج ساعة الغسق تَدخلك الغيمة وتجلس في غرفة معيشتك وتؤانسك بالرذاذ المسائي. أما الليل فتلك حكاية أخرى، فنحن والقمر دائماً جيران، نكاد نلمسه بأيدينا وندخله إلى أسرّة النوم ونقرص خده الأبيض المضيء وننام في حراسته، لكأنه لا يمل من حراسة القمم والساهرين، ولا يمل السفر والسهر كما تقول فيروز. أما انقطاع الكهرباء فأصبح طقساً أصيلاً من طقوس المكان، وأصبحت المسارعة إلى إضاءة الشموع لوناً من ألوان الرومانسية المعتقة التي لا تحلو الحياة اليومية اللبنانية بدونها. فكل شيء محتَمَل هنا وقابل للمفاوضة والتعايش.

وعادة ما يكون للبيت الصيفي في لبنان أكثر من بلكونة، إن لم يكن لكل غرفة ومرفق بلكونته المطلة على زاوية من زوايا الدنيا، فهناك بلكونة الوادي الصباحية، وهي مرصودة للتأمل والاسترخاء. وهناك بلكونة المطبخ التي تنبئك ماذا يطبخ الجيران للغداء، ومتى كانت الغسلة الأخيرة للشراشف والبياضات، وهناك بلكونة جلسة العصر، وعادة ما تكون في الناحية المقابلة المطلة على الطريق العام.

وبلكونة العصر غالباً ما تكون سلوة للخاطر وتسلية للفراغ، وخير ما ينبئك عن أحوال السكان والجيران وحركة الحياة من حولك. منها تستطيع أن تنادي على حارس العمارة ليقضي لك غرضاً أو حاجة، ومنها تستطيع أن تتابع لعب الأطفال واليافعين وهم يحتالون على فراغ يومهم بكرة السلة أو ركوب الدراجات أو ملاحقة عربات الآيس كريم، ومنها تطل على أنشطة الجيران المسائية، فهذه أم الياس تدور بفناجين القهوة على طاولة الضيوف المجتمعين في البستان وقد تهدلت عليهم أغصان الدالية، وذاك أبوكريم مشغول بإعداد ولعة الأرجيلة، وتلك خادمة (ريما) السيريلانكية تأتي من رأس الشارع محملة ببعض حاجيات سهرة المساء، بينما انشغلت سيدتها بإطعام قططها الكثيرة المدللة. وعلى بعد درجتين من المنعطف يأتي صوت مذياع أستاذ العلوم أبومصطفى الروّاس بعيداً متهادياً يحمل غناء أم كلثوم (أروح لمين).

أما الشارع الممتد بين عمارات الحيّ فيتحول في ساعات العصر وقبيل المساء إلى منتزه للمشي والتريض، حيث تتهادى على طول امتداده الصبايا بيفاعتهن والكهول بوداعتهم والنساء الدرزيات بأثوابهن السوداء السابغة وخُمرهن الناصعة البياض. وبين هؤلاء وأولئك تتلامح العباءات والشورتات الرياضية والجينزات الضيقة والزنود البرونزية التي لوحتها الشمس.

سقى الله أيامك ومساءاتك يا لبنان، وأبقاك شرفة للجمال والعافية والمسرات.