قلة من الباحثين الجادين كرسوا جهدهم العلمي في متابعة اللحظات الأخيرة للطغاة. أظن أن تلك اللحظات الأخيرة ملهمة لكاتب روائي أو مخرج سينمائي لسبر أغوارها، ففيها إثارة وربما تفسير لشيء ما غاب عن أعيننا.

Ad

كيف يتعامل الناس مع الطغاة عندما يسقطون ويصبحون أثراً بعد عين؟ السؤال قديم قدم تشكل المجتمعات البشرية، فالبعض يهمه الانتقام، والبعض يرى العدالة في الانتقام من الطاغية، والبعض، وأنا منهم، يحرص على العدالة المطلقة، أي حق الطاغية في الحصول على محاكمة عادلة بغض النظر عن جرائمه التي ارتكبها بحق الآخرين من شعبه أو غير شعبه. حاول الناس عبر التاريخ إيجاد صيغ للتعامل مع أوضح أشكال الطغيان، وهو الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وشبيهاتها، فسعى المنتصرون في الحرب العالمية الثانية إلى إثبات عدالتهم وأخلاقياتهم المثلومة والمشكوك فيها، عن طريق تأسيس محاكم نورمبرغ وطوكيو التي أطلق عليها الحقوقيون مصطلح "عدالة المنتصر" للتقليل من شأنها. منذ ذلك الحين حتى اليوم مرت مياه كثيرة تحت الجسر حتى حدثت القفزة الكبرى بتأسيس المحكمة الجنائية الدولية، التي مازالت تعاني من محددات السياسة واستهتار الساسة. إلا أنه رغماً عما يبدو ظاهرياً وإجرائياً من قصور، فإن وجود المحكمة بذاته مكسب مرحلي مهم لكل المضطهدين في العالم وبالذات حماية للمستقبل أكثر من نبش الماضي. وهكذا أصدرت المحكمة قرار إدانتها الأول منذ تأسيسها بحق زعيم عصابة مجرمة من الكونغو توماس لوبانجا الذي مارس جرائمه في منطقة ايتوري من تجنيد الأطفال واغتصاب النساء. ومن المتوقع صدور حكم آخر بالإدانة على جيرمان كاتانغا من الكونغو بجرائم أشد منها مثل القتل الجماعي. في هذا السياق يأتي القبض على عبدالله السنوسي المسؤول الشرس في مخابرات القذافي يوم السبت قبل الماضي في موريتانيا. يطالب بتسليم السنوسي ٣ جهات، الحكومة الفرنسية والحكومة الليبية والمحكمة الجنائية الدولية. وحيث إن الطلب الفرنسي مشكوك في جديته، إلا أن المطالبتين الليبية والدولية لا شكوك حول جديتهما. ولعل اتفاق الحكومة الليبية مع المحكمة الجنائية الدولية على تسليمه لها سيكون أحد أبرز إسهامات العهد الليبي الجديد في دعم العدالة الجنائية الدولية، حيث بإمكانها كحكومة توفير الشهود والمعلومات اللازمة لإدانته، بدلاً من الإصرار على محاكمته داخل ليبيا مع كل ما اعترى ذلك من ملاحظات حول ظروف احتجاز أركان النظام السابق وافتقارها إلى الكثير من ضمانات العدالة.

إبرام اتفاق ليبي دولي سيجعل من ليلة القبض على عبدالله السنوسي معنى أكبر من مجرد اعتقال أحد المجرمين الفارين، حيث سيأتي ذلك في إطار تقوية وترسيخ العدالة الجنائية الدولية التي مازال طريقها طويلاً لكي تتحقق.