قوى التغيير وضرورته
لكل مرحلة زمنية خصوصيتها من حيث الثقافة والأدب والسياق التاريخي عمن سواها، وحتمية التطور في الحياة كفيلة بإنتاج مفاهيم جديدة تناسب كل مرحلة، والأهمية التاريخية لأي منها لا تجيز استنساخها والعيش في قوالبها تحت أي مسمى انسجاما مع قوانين التطور ماعدا تسليم عصا القيادة كسباق التتابع تواصلا مع حركة التاريخ، والنهل ما أمكن من تجارب الماضي لصناعة المستقبل. المرحلة الثورية السابقة محطة مهمة في تاريخنا لغناها بالدروس والعبر، والتي لم تأخذ حقها بالقراءة بعد، ولكن بعض الأنظمة والقوى مازالت تلبس عمامتها وتستمد الشرعية منها باعتبارها امتداداً لها رغم كل التبدلات الجيوسياسية، وحتى المناخية، وبعض أنظمة الربيع العربي والسوري منها خاصة تقمص تلك المرحلة ورفع شعارات متقاربة مع التقمص ليبرر طغيانه وتمادي فساده وفجوره الطائفي "كالصمود والممانعة". وللأسف جاءت الإساءة ليس لتلك المرحلة المهمة من تاريخنا فحسب، بل إلى التيار القومي والديمقراطي عموما، والذي حصل على النصيب الأكبر من الاضطهاد والإلغاء من حكم "البعث" حتى لا يكاد سجل أي من قيادات ونشطاء هذا التيار يخلو من التعسف والاعتقال المديد والتضييق في المعيشة والعمل، والذي تحسب له أنه أول من طرح برنامج التغيير الوطني الديمقراطي منذ ثلاثة عقود، والذي يتبناه الشارع الآن، وتجسد بصيغة "التجمع الوطني الديمقراطي"، ولكنه لم يستطع الإفلات من قبضة الاستبداد في تحقيق برنامجه، فجاءت أساليبه وأطروحاته في المعالجة الثورية الحالية تقليدية وغير متناسبة طردا مع مجريات الأحداث ودمويتها المفرطة، مما أفسح المجال لشتات الخارج في تبوء قيادة الشارع، وهو الذي لم يعرف يوما بأكثريته طريق المعارضة ولا حتى عنوانها. مظلة البعث القاتمة خلقت لدينا حالة من البلادة الفكرية والسياسية، وحاصرتنا بلا شك بقوالب شعاراتية يصعب الفكاك منها رغم خوائها، لكنها مع الوقت أضحت قيماً نخبوية وجزءاً مهما من الثقافة العامة، والثقافة التقليدية المقولبة لم تعد تجد نفعاً في فضاء السياسة الحالي، وأضحت بحاجة إلى المراجعة والتطوير لتتلاءم والحالة الربيعية الثورية التي بدت رافضة لكل المعلبات ولكل المسطحات والأثريات الفكرية والسياسية، والتي لم تحصل في السباق الثوري الحالي على أي نقاط تمكنها من البقاء في المنافسة، وذلك لفارق السن، فهل نبدأ المراجعة ونعود إلى الشارع بثقافة متجددة بعيدة عن التنظير وأنصاف الحلول، ومتصالحة مع الواقع مع إنتاج نخب ربيعية التوجه والاتجاه، أم ننزوي إلى المطالعة وكتابة المذكرات وإلقاء المحاضرات؟ توحيد صف المعارضة من خلال برنامج وطني شامل للتغيير أضحى ضرورة وطنية وأخلاقية، وهذا يحتم على الجميع من قوى وأحزاب وتيارات المشاركة في صياغة البرنامج لضمان الزخم اللازم للثورة، ولكن ما يقلقنا عقم الأداء في المجلس الوطني السوري مع نزعة إقصائية مبطنة (وكأنها مدفوعة الأجر)، وتجلى ذلك أخيرا في عدم دعوة هيئة التنسيق الوطنية والمنبر الديمقراطي إلى مؤتمر المعارضة في إستنبول رغم الإعلان عن دعوة الجميع بدون استثناء، وعلى لسان رئيس المجلس فأي مصداقية وأي حرية ستسود بعد سقوط النظام؟