أما التلميذ فهو أندريه مالرو أحد أشهر أدباء فرنسا في القرن الماضي، وأما الأستاذ فهو الفيلسوف "إميل شارتييه" الذي كان يوقع جميع كتبه أعماله دوما باسم "آلان"، وكان له تأثير بالغ في عدد من طلبته النابغين وكان "مالرو" أحدهم، وقد كتب بعد وفاة أستاذه مقالاً شرح فيه أسباب عبقرية وعظمة أستاذه، وكيف كان لأفكاره وسلوكياته ومواقفه عظيم الأثر فيه، وبيّن من خلاله كيف أن مهنة التدريس مهمة وشاقة، وأن المتميزين من المدرسين بمنزلة الآلة التي تصنع وتهيئ وتحدد مستقبل الأجيال القادمة لأي أمة، وأن أهمية إعداد الأستاذ ربما تفوق أهمية إعداد المناهج والدروس، فالأستاذ النابغة يتجاوز الحروف والكلمات ليسبر أغوار الأفكار التي بين ثناياها، ويولد من خلالها أفكاراً أكبر وأعمق وأوسع، فالمعرفة ليست نقل السطور من قلم الكاتب إلى رأس القارئ، بل تحفيزه على إضافة الجديد من الرؤى والأفكار والتصورات لما تمت قراءته.

Ad

يقول "مالرو":

"لقد عرفت سياسيين عظاماً وقادة وكتاباً عالميين، لكن الرجل الذي لا يمكن أن أنساه من بين كل من عرفتهم جميعا هو أستاذي "آلان"، ذلك الفيلسوف الذي لم يكن أحدنا يعلم قط ماذا ينوي أن يفعل في محاضرته، فقد كان يجلس تارة بيننا في مقاعدنا ويأمر أحد الطلبة أن يقف إلى السبورة ليضع بالتفصيل مشروع مقالة، وكان تارة يهوي بيده إلى شيء غاية في البساطة ليأخذه- محبرة مثلاً- ليبني حوله فلسفة كاملة وسط ذهولنا من قدرته على استنباط الأفكار واستيلاد المعاني!

لم يلقِ إلينا يوماً بعقيدة ليقول: "هذا هو ما ينبغي أن تعتقدوه" بل كان يعرض الأفكار كافة بحيادية تامة ثم يترك لعقولنا مطلق الخيارات في اختيار ما تراه صوابا منها، وكان يقول دوما: "ينبغي في المحاضرة أن تُسمع أصوات الصغار أيضا لا حديث المدرس وحده". كان يعودنا على التفكير الحر والنقد لأي قول مهما بلغت عظمة قائله: "إن أحدنا لا يمكن أن يتعلم التفكير بالإصغاء لرجل يحسن التفكير، بل يجب أن يستنبط المرء حجته ثم يبرهن عليها، ثم يصوغها، ثم يعيد صياغتها حتى يصبح الموضوع وألفاظه جزءاً من العقل". وقد كانت مواهبه الفلسفية تمثل لنا حافزاً مدهشاً، فلم يكن يطلب منّا أن نفكر في موضوع مجرد، بل كان يأتينا بمثل هذه المشكلة "مومس صغيرة السن تهم أن تقفز من الجسر إلى النهر، فيراها فيلسوف كان يعبر الجسر فيمنعها، اكتب ما يجري بينهما من حديث"! كنا نعلم أنه ذو جرأة عقلية، فقد كان يقول: "ينبغي ألا يؤذن لأي قوة على الأرض بأن تهدم الحرية الشخصية الذاتية التي هي حق مكتسب لكل فرد منّا منذ ولد"، وقد أعطانا يوماً دليلاً ساطعاً على استقلاليته، فقد كان الأساتذة الفرنسيون حينذاك موظفين عند الدولة، ويخضعون لتقييم مفتشين يفاجئونهم بين وقت وآخر ليقرروا أهم أهل للترقية أم لا، فكان آلان يخبرنا يوماً لم يستهجن الرتب والنياشين فقال: "إن هذه اللعب تجعل للدولة سلطاناً شديداً على الفرد وإن عليها لوصمة من الرشوة، إذ كيف يستطيع رجل يتلهف إلى وسام أو نيشان أن يعيش حراً غير مقيد في فعله وفي تفكيره؟"، وفي تلك اللحظة فتح الباب ودخل مفتش له أبهة وبهاء وعليه زينة حافلة من الأوسمة، فنظر بعضنا الى بعض وتساءلنا أيتابع "آلان" حديثه في هذا الموضوع أم تراه سيختار السلامة ويصمت، إذ قد يصبح مستقبله مهددا بالخطر، لكن آلان بعد أن حيا المفتش بأدب قال في هدوء "كنت يا سيادة المفتش أبين لهم لماذا أستهجن الأوسمة والنياشين" فسري عنّا، فآلان لم يزل كما نعرفه! وحين بدأت الحرب في عام 1914 كان ربما الرجل الوحيد في مثل سنه الذي تطوع ليكون جندياً من جنود القتال رافضاً كل رجاء بأن يتولى عملاً ما يليق بسنه ومكانته، ومفضلاً أن يقاتل في زمن كانت السيادة المطلقة فيه للقوة لكي يدافع عن الشرف الإنساني وحرية الفكر الفردي، وقد خرج من الحرب مصاباً بروماتيزم وعرج لكن عقله وروحه ظلا نشيطين دائما، فدرس الفلسفة 15 عاماً أخرى في "الليسيه" حتى ذاع صيته وصيت دروسه".

كان هذا بعض ما قاله "مالرو" عن أستاذه، وأظن أن فرنسا كان لديها العديد من هؤلاء الأساتذة النوابغ الذين كانوا سبباً لتقديس أهلها للحرية الفكرية، والأكيد أن أمماً أخرى تفتقر إلى هذه النوعية من المعلمين، أمم تقضي يومها في الجدل العقيم ومحاولة فرض الحقائق المطلقة على بعضها بعضا، وهو سبب تخلفها وتأخرها وتناحرها المستمر!