ليس عليك سوى أن تقرأ الصفحات الأولى في صحف الصباح الصادرة في القاهرة، لتعرف أن انتخاب الرئيس مرسي بطريقة ديمقراطية نزيهة لم يكن أول طريق الاستقرار والعمل من أجل تجاوز المخاطر التي تعانيها مصر، ولكنه ربما كان إيذاناً بتفجير الألغام الصغيرة المزروعة في كل بقعة من بقاع البلد، الذي انطوى على خراب ممنهج طيلة ثلاثة عقود خلت.

Ad

صحف الصباح تنشر صوراً لعمال وموظفين وناشطين و"أرزقية" يحاصرون القصر الرئاسي في ضاحية مصر الجديدة، لتحقيق مطالب وتنفيذ وعود، وبعضهم يتسلق سوره، والبعض الآخر يدق على أبوابه بعنف، وحين ييأس من "تجاوب" الرئيس معه، يرسل إليه "لعنات وشتائم" بالصوت العالي.

لم يكن بوسع أي مخيلة أن تبتدع مثل هذا المشهد؛ حيث يهتك المتظاهرون حرمة القصر الذي ظل يحاط بأكبر إجراءات الحماية لعقود طويلة... لقد وصل الأمر إلى تمركز عربات لبيع المشروبات المثلجة على رصيفه، وحين سأل أحد الصحافيين بائع مشروب "التمر هندي": كيف تقف هنا؟ أجاب ببساطة: الرئيس يحبنا ولن يسمح بطردنا.

في الأخبار أيضاً أن معركة نشبت بين محامين ورجال شرطة في أحد الأقسام، بسبب اتهامات بـ"سوء المعاملة"، وقد أفضت المعركة إلى تحطم واجهة القسم ومكتب المأمور وسجلات المحاضر وإصابة عدد من المحامين ورجال الأمن (عدد المصابين من الجانبين متقارب)، والأهم من ذلك... "محاصرة القسم".

الشرطة مكسورة وغير قادرة على التعاطي مع الظروف التي أنتجتها ثورة يناير، والبعض يعلم ذلك ويسعى إلى الاستفادة منه، لكن الرئيس المنتخب لن يكون بوسعه العمل من دون فرض سلطة القانون في الشارع، والسلطة تفرضها الشرطة، لكن الشرطة مازالت بعيدة عن القيام بهذا الدور الآن.

وعد الرئيس بحل عدد من المشكلات في المئة يوم الأولى من رئاسته. لقد بدا الرجل طموحاً جداً؛ فقد اختار مشكلة المرور ضمن المشكلات الخمس التي وعد بحلها. مشكلة المرور ضخمة جداً ومؤثرة في هذا البلد؛ فالجميع يعاني بسببها، والجميع يعرف أيضاً أن حلها يكمن أولاً في فرض القانون في الشارع وإزالة المخالفات عبر تدخل الشرطة. بعض التخطيط والتنظيم سيكون مفيداً جداً في هذا الصدد، لكن تطبيق القانون سيكون رأس الحربة لتحقيق مثل هذا الهدف.

لا يبدو أن الرئيس سيفي بعهده حيال أزمة المرور أبداً، فمساء أمس الأول الجمعة، وهو يوم عطلة بالطبع في مصر، كان وسط العاصمة مخنوقاً، لأن السيارات صفت خطأ في معظم المحاور. محاولة صعود جسر "أكتوبر" المحوري الشهير كانت عبثية جداً، والسبب ظهر بعد التمركز فوق الجسر؛ فقد اصطفت عربات لبيع "حمص الشام" والشاي والقهوة على أرصفته، وصفت السيارات على جانبه، وترجل راكبوها لشراء "الذرة المشوية" والاستمتاع بنسمات النيل.

تنتمي الشرطة إلى "الدولة العميقة" في مصر، ولا ترتاح كثيراً للطريقة التي عوملت بها منذ اندلاع الثورة حتى الآن، ولا يبدو أنها ستتعاون ببساطة مع الرئيس المنتخب، ولذلك فإن خططه لتأمين الوقود والخبز وإصلاح المرور في المئة يوم الأولى من حكمه ستكون في مهب الريح طالما أنه لا توجد شرطة "قادرة ومخلصة" للمساعدة في تحقيقها.

معركة أخرى تحتل صدر الصفحات الأولى في صحف القاهرة؛ فقد قتل ثلاثة مواطنين من محافظة السويس شرقي البلاد طالباً بكلية الهندسة في أعقاب "محاولة نصحه بعدم الوقوف مع فتاة في الطريق العام". تلك صورة جديدة من صور تغول التيارات الإسلامية في الشارع، يقول نقاد الإسلاميين إن الثلاثة المتهمين بالقتل أعضاء في "جماعة الأمر بالمعروف"، وهي جماعة يقال إنها تحاول استنساخ شبيهتها في المملكة العربية السعودية، استناداً إلى الزخم "الإسلامي" المتحقق بفوز مرسي بالرئاسة، في أعقاب هيمنة الإسلاميين على البرلمان.

سيكون مرسي مضطراً لإظهار موقفه من مثل هذه الحوادث. إلى أي حد سيتم السماح لبعض الإسلاميين، أصحاب الروح المعنوية العالية جداً، بفرض إرادتهم في الشارع، مستخدمين عوائد الديمقراطية، ومستندين إلى سلطة الرئيس والبرلمان، ومتزودين بالأسلحة البيضاء... "لزوم الإقناع"؟

ليت الأمر يقف على مثل هذه الحوادث التي تظهر بين حين وآخر، لكن هناك ما هو أشد خطراً في ما يخص تحديد حجم الدور الذي سيلعبه الإسلام في الشارع والحياة العامة.

فثمة معركة طاحنة تنشغل بها صحف الصباح في القاهرة راهناً؛ إذ يدور صراع كبير بين أعضاء الجمعية التأسيسية المنتخبة لإعداد الدستور الجديد والتيارات التي يمثلونها حول دور الإسلام في المجتمع.

يمكن قراءة تفصيلات تلك المعركة في الجدل الدائر حول المادة الثانية من دستور 1971 الذي تم تعطيله، حيث تقول تلك المادة: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، لكن بعض الإسلاميين لا يقبلون ببقاء الصياغة على ما هي عليه، ويطالبون بتعديلات تشير إلى دور أوسع للإسلام في التشريع. وفي المقابل، فإن بعض المسيحيين والليبراليين يعتقدون بضرورة إبقاء النص كما هو مع الإشارة إلى "احتكام غير المسلمين إلى شرائعهم في الأحوال الشخصية"، في ما يرى الأزهر مثلاً وبعض الناشطين والسياسيين أن تظل تلك المادة على حالها من دون أي تغيير.

يقول بعض السلفيين النافذين، والذين احتلوا المرتبة الثانية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بضرورة أن يتم استبدال كلمة "أحكام" بكلمة "مبادئ" في نص المادة الثانية، وهو أمر سيساعدهم بلا شك في التذرع بالدستور عند محاولتهم تعميق دور الشريعة في المجتمع بما قد ينطوي عليه هذا من محاولة "تطبيق الحدود" على سبيل المثال.

سيكون مرسي في ورطة عميقة حقاً إزاء هذه المطالبات؛ فقد خطب الرجل في ميدان التحرير عشية قسمه اليمين الدستورية مشدداً على التزامه بـ"دولة مدنية دستورية وطنية حديثة"، لذلك عليه أن يحسم موقفه هو وجماعته (الإخوان المسلمين) إزاء شركائهم في البرلمان (السلفيين)، وأيضاً إزاء عدد من أنصار "الشريعة الإسلامية" الذين صوتوا لرئيس "ملتح" لـ "يطبق شرع الله".

عاش مرسي ثلاثة أيام متتالية من النشوة والزهو والشعور بالمجد، وقد خطب في الجماهير مفعماً بالأمل ومطلقاً الوعود، حيث بدا أن قدميه تريدان أن ترتفعا عن الأرض ليحلق في السماء وسط الجماهير المنتشية والمتفائلة. لكن بعد تلك الأيام الثلاثة راحت السكرة وجاءت الفكرة، وبدأت الأسئلة الصعبة والتحديات الشائكة، التي يمكن أن تجعل الانتصار الكبير الذي حققته جماعة "الإخوان المسلمين" في صناديق الرئاسة والبرلمان وهماً وسراباً حقيقياً، إن لم يبادر الرئيس إلى تحديد مواقفه بوضوح، والعمل كرأس سلطة تنفيذية تبتغي تحقيق النجاح، وليس كمرشح انتخابات يريد إرضاء الجميع لحصد أصواتهم.

* كاتب مصري