أفلام قصدتها لمتعة الإدهاش، ولكني لم أفلح في الاستمتاع بهذه الخصيصة التي توهمتها حاجة تنبض في قلب كل شاعر. شاهدت فيلم «برومثيوس»، و»ليل معتم ينهض»، فوجدتهما إدهاشاً عضلياً، تلعب فيه تقنيات الكومبيوتر دوراً غير ملهم. بعدهما شاهدت «الصياد» و»حنين إلى الضوء». طربت للأول (المخرج الأسترالي دانيل ناتهايم)، لأنه يطيّب خاطري في أن قوى بشرية مازالت تسعى جاهدة للخير على هذه الأرض سيئة الطالع. أما الثاني فجعلني أرحل مع دقائقه، التي وجدتها إنسانية وبالغة العمق في آن.

Ad

المخرج تشيلي يُدعى «باتريشيوغوزمان» (مواليد 1941)، منصرف في أفلامه إلى التوثيق، وهذا الفيلم وثائقي ولكن بتدبير بارع يصل الوثيقة بالتأمل الفلسفي، بصورة في غاية السلاسة والطواعية. الكاميرا باتجاه صحراء «آتاكاما»، التي تعتبر أكثر الأراضي جفافاً على الأرض. ولكن صفاء السماء بسبب انعدام الرطوبة أصبح نموذجياً لعين وعقل عالم الفلك لمراقبة الكون. وهذه المنطقة كانت أيضاً، حين قام بينوشيه بانقلابه سيئ الصيت، مكاناً لمعسكرات اعتقال كبيرة، ولمقابر جماعية لأجساد ضحاياه. وهي حتى اليوم مزار الناس الذين لا يكلون بحثاً عن بقايا جثث أحبائهم ممن لم يعثروا عليهم.

فيلم «باتريشيو» بُني على حفنة أفكار لا تخلو من الترويع بالتأكيد. إنه يبدأ مع عالم فلكي يدير تليسكوباً هائل الحجم في منطقة «آتاكاما»: يقول إنهم عبر التليسكوب ينظرون إلى فضاء مزدحم بأصداء الماضي. وهو يعني الماضي الزماني حرفياً لا مجازاً، لأن الضوء في حركة تواصله يستغرق وقتاً في غاية الطول، فكلما نرى نجماً بأعيننا المجردة، أو غير المجردة، إنما نرى حدثاً تم في وقت بعيد عنا تماماً. ولأن الصوت ينتقل أبطأ من الضوء، فإن الأجهزة التي تنصت إلى المجرة سوف تلتقط في يوم ما آتٍ، وهذا أقصى آمال الفلكيين، أصداء «الانفجار الكبير»، أو لحظة مطلع الكون، الذي تتحدث عنه النظرية الفلكية بثقة كبيرة.

ثم يواصل الفلكي الحديث بقوله «إن الحاضر لا وجود له». وهو كلام قد يوحي بأنه تصور فلسفي خالص، ولكنه في الواقع بيان لحقيقة علمية بأن هناك دائماً انقطاعاً في الزمن يحدث بين الشيء عند حدوثه وبين اللحظة التي نراه فيها، ولا فرق إذا كان الأمر يتم في مليون جزء من الثانية أو في آلاف من السنين. إن الماضي حاضر معنا دائماً، ما تحتاج إليه هو فقط أن تنقب أعمق كفاية. وهذا الأمر سرعان ما يأخذ في الفيلم مشاهد عدد كبير من النساء التشيليات، المتشبثات بحق البحث عن موتاهن، يمشطن براري «آتاكاما» أملاً بشظايا من موتى ماضيهن القريب. إنهن ينخلن الصحراء بحثاً عن بقايا عظام وأشياء أحبائهن الذين قتلوا على يد زمرة بينوشيه وميليشياته.

إن العظام، يذكرنا الفيلم على لسان الفلكي، مصنوعة من الكالسيوم، وهذا الكالسيوم الذي يشكل مادة جسدنا إنما تشكل هو ذاته في حدث «الانفجار الكبير» في أولى لحظات تشكل الكون. إن هذا الكالسيوم إنما يؤسس لرابط بين بحث النساء عن رمم الموتى المفقودة في غمرة الماضي وبين بحث العالم الفلكي عن رمم نجوم قد تكون زالت منذ آلاف السنين. كلاهما مستغرقان في محاولة اكتشاف الماضي. وكأن منطقة «آتاكاما» كوكبٌ آخر بعيد ومراقب من فلكي من كوكب ثان. أحد المتحدثين في سلسلة الحوارات يقول إن تشيلي «تحتاج إلى مرصد قادر على دراسة وسبر غور عالمها الأرضي، واكتشاف أجساد أبنائها المفقودة، والكشف عن جذور آلامها التي لم تجد مستقراً.»

في إحدى المشاهد الأخيرة تعرض علينا الشاشة جداراً من صور حائلة اللون لوجوه آلاف الأشخاص الذين غُيبوا في المقابر الجماعية، تتماهى مع كوكبة فلكية من النجوم، تنبض باهتة من أعماق الماضي. والموسيقى المصاحبة ملائمة تماماً. ومن مقعدي الوثير في الصالة المظلمة رأيت وجوها أعرفها وأخرى لا أعرفها ولكني قادر على تخيلها، من قتلى مقابرنا الجماعية نحن أيضاً. ولكن قتلانا مثل نجومنا الليلية تنبض دون مخرج سينمائي رقيب، ولا عالم فلكي رقيب.