نموت، نحن الكتاب العرب، دون رسائل أو يوميات. نترك نصوصنا الخيالية عائمة في ريح دون أن تلقي ظلالاً على الأرض، لأن الرسائل الشخصية واليوميات الشخصية هي ظلال النصوص الإبداعية على الأرض. كم تمر بين يديَّ رسائل الكتاب الغربيين ويومياتهم في مجلدات لا تسعها مكتبتي، حتى لتبدو لي ولكثيرين أكثر إغواء من كتب نصوصهم الابداعية!

Ad

رسائل الشاعر تي أس أليوت واحدة منها، صدرت قبل فترة في مجلدين عن دار "فيبر أند فيبر"، التي كان يديرها أليوت في مراحل حياته المتأخرة. الرسائل تجعلنا نتتبع خطواته على الأرض، بل خطوات نصوصه الخيالية على التربة الشائبة، وفي الظرف الزماني الشائب. كان في المجلد الأول شاب يطمح أن يكون فيلسوفاً، لا شاعراً، ثم يقيم في لندن بعد الحرب الكونية الأولى، تأخذه الحاجة إلى العمل المصرفي المنهك، كما تأخذه الوحدةُ إلى الزواج من فيفيان المرتبكة عقلياً، وبين فكي الألم هذين يتدفق الشعر على الفيلسوف، فيكتبُ رائعته "الأرض اليباب".

ولأن محنة العمل المصرفي تحتل قلب المجلد الأول، انتخب حدثاً لافتاً للنظر، يكشف عن مقدار روح الرعاية النبيلة التي يتمتع بها شاعر غربي مثل إزرا باوند ومجموعته لموهبة محاصرة مثل موهبة أليوت. فقد شاء باوند عام 1922 أن يحرر أليوت من عمله الوظيفي فوضع خطة أطلق عليها اسم Belesbrit (ذو العقل الخلاق). الخطة تتلخص في البحث عن ثلاثين شخصاً من الضامنين لدفع 10 باوند من كل ضامن في السنة، من أجل توفير مبلغ 300 باوند مرتباً سنوياً لأليوت، تؤهله لترك العمل والتفرغ للكتابة. الاعلان السري الذي كتبه باوند في 1922 جاء فيه: "ان أليوت لا يسأل فضلاً من أحد بالتأكيد، خطتنا كانت تدبيراً دون معرفة منه. إن عمله في البنك أضعف من نتاجه الشعري، وأشاع الوهن في نتاجه النثري. في الشتاء الفائت أصاب أليوت انهيار نفسي مُنح على أثره إجازة ثلاثة أشهر للراحة، خلال تلك الفترة كتب أليوت "الأرض اليباب"، وهي سلسلة قصائد، لعلها تشكل أفضل ما قدمته حركة الحداثة في الشعر الانكليزي منذ 1900، ولا تقل شأناً عن أفضل ما كتبه كيتس، براوننغ أو شَللي."

ولكن أليوت عارض الخطة حين علم بها، لأنها في رأيه لن توفر له الاستقرار الذي يقدمه له عمله في البنك: "لا أفضلية في اعتماد هذا الدخل غير المحدد على مدى خمس أو عشر سنوات قادمة،" كتب أليوت لصديقه ريتشارد ألدِنغتون في يونيو (حزيران) 1922، وانفرط عقد الخطة حين أصبحت معلنة.

إن أكثر ما أربك أليوت في لحظة إعلان الخطة في الصحافة الثقافية هو أنها يمكن أن توحي بقرار التخلي عن عمله في البنك، مع أنه كتب للشاعر باوند بصورة شخصية في نوفمبر 1922، "من الطبيعي أنني أريد أن أترك وظيفة البنك، وطبيعي أن فكرة بقائي فيه طوال حياتي تبدو لي مقيتة، ولذا ما من حاجة لتأكيد ذلك".

براعات المهنة التي تعلمها أليوت في عمله في البنك مكنته من تحرير نفسه. فقد بدأ، بدعم مالي من السيدة روثمير، إصدار مجلة فصلية باسم "المحك" أو المعيار في النقد عام 1922، بحيث أصبحت مراسلاته الكثيرة مع الكتاب نافذته الواسعة لرؤيته الشعرية والنقدية. وطوال الوقت كان يحاول عبثاً مع راعية مشروعه الثقافي هذا، بأن تحدد له راتباً جزاء عمله الكثيف المرهق الذي يتطلبه إصدار المجلة، حتى أنه توسط لها عدداً من الأصدقاء لإقناعها بذلك. هذا الجهد التحريري، والاسهامات الكتابية في المجلة حفز جيفري فيبر، صاحب دار النشر "فيبر" على الاتصال به والاتفاق معه ليكون عضو تحرير أساس في الدار. مع هذا الاتفاق قرر أليوت مغادرة وظيفته في البنك، والبدء بحياة جديدة مضمونة الراتب والمستقبل، عمادها الكتاب والنشر.

خطة إزرا باوند لم تُحقق، ولكنها حلقت مضيئة في أفق كل سعي ثقافي نبيل.