لا معجزات نمو بعد الآن

نشر في 15-08-2012
آخر تحديث 15-08-2012 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت قبل عام واحد، كان المحللون الاقتصاديون مفرطين في التفاؤل بشأن احتمالات النمو الاقتصادي في العالم النامي، وعلى النقيض من الولايات المتحدة وأوروبا، حيث بدت آفاق النمو ضعيفة في أفضل تقدير، كان من المتوقع أن تتمكن الأسواق الناشئة من الحفاظ على أدائها القوي في الأعوام العشرة السابقة للأزمة المالية العالمية، فتصبح بالتالي المحرك للاقتصاد العالمي.

فقد أظهر خبراء اقتصاد في سيتي غروب على سبيل المثال قدراً كبيراً من الجرأة عندما استنتجوا أن الظروف لم تكن في أي وقت مضى أكثر دعماً للنمو المستدام في مختلف أنحاء العالم، وتوقعوا ارتفاع الناتج العالمي بسرعة حتى عام 2050، بقيادة الدول النامية في آسيا وإفريقيا. كما توقعت الشركة المحاسبية الاستشارية «برايس واتر هاوس كوبرز» أن يتجاوز نمو نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في الصين والهند ونيجيريا 4.5% بحلول منتصف القرن. كما أطلقت شركة ماكنزي وشركاه الاستشارية على إفريقيا التي ظلت لفترة طويلة مرادفاً للفشل الاقتصادي وصف «أرض الأسود السائرة قُدُما».

واليوم حل محل هذا الكلام المخاوف إزاء ما أطلقت عليه مجلة الإيكونوميست وصف «التباطؤ الأعظم»، إذ تشير البيانات الاقتصادية الأخيرة في الصين والهند والبرازيل وتركيا إلى أضعف أداء في مجال النمو في هذه البلدان منذ سنوات، والآن انحسر التفاؤل وتزايدت الشكوك.

بطبيعة الحال، وكما كان من غير المناسب أن نقفز إلى النتائج باستقراء العقد الماضي الذي شهد نمواً قويا، فلا ينبغي لنا أن نبني توقعاتنا في المستقبل على تقلبات قصيرة الأمد، ولكن هناك على الرغم من هذا من الأسباب القوية ما يجعلنا نعتقد أن النمو السريع سوف يكون الاستثناء وليس القاعدة في العقود المقبلة.

ولكي نتعرف على السبب، يتعين علينا أن نفهم كيف تُصنَع «معجزات النمو»، فباستثناء حفنة من البلدان الصغيرة التي استفادت من ثروات الموارد الطبيعية، فإن كل الاقتصادات الناجحة في العقود الستة الأخيرة تدين بنجاح النمو لديها إلى التصنيع السريع. وإذا كان هناك أمر واحد يتفق عليه الجميع فيما يتصل بالوصفة الاقتصادية في شرق آسيا، فهو أن اليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وتايوان، وبالطبع الصين، كانت جميعها ناجحة إلى حد غير عادي في نقل العمالة لديها من المناطق الريفية (أو الأنشطة غير الرسمية) إلى التصنيع المنظم، ولم تكن الحالات السابقة من اللحاق الاقتصادي الناجح، مثل الولايات المتحدة أو ألمانيا، مختلفة.

إن التصنيع يمكن الدول من اللحاق السريع بالركب لأنه من السهل نسبياً نسخ وتطبيق تقنيات الإنتاج الأجنبية، حتى في الدول الفقيرة التي تعاني معوقات متعددة. ومن اللافت للنظر أن دراستي البحثية تُظهِر أن الصناعات التحويلية تميل إلى إغلاق الفجوة مع حدود التكنولوجيا بمعدل نحو 3% سنوياً بصرف النظر عن السياسات، أو المؤسسات، أو الجغرافيا. وبالتالي فإن الدول القادرة على تحويل المزارعين إلى عمال مصانع تجني ثمار النمو الكبيرة.

لا شك أن بعض أنشطة الخدمات الحديثة قادرة أيضاً على إحداث التقارب في الإنتاجية، ولكن أغلب الخدمات العالية الإنتاجية تتطلب مجموعة واسعة من المهارات والقدرات المؤسسية التي تتراكم لدى الاقتصادات النامية ولكن تدريجيا، إن أي دولة فقيرة قادرة بسهولة على التنافس مع السويد في نطاق واسع من الصناعات؛ ولكن الأمر يستغرق عدة عقود، إن لم يكن قروناً من الزمان، للحاق بالمؤسسات السويدية.

ولنتأمل هنا حالة الهند، التي تؤكد القصور المتأصل في الاعتماد على الخدمات وليس الصناعة في المراحل المبكرة من التنمية، فقد اكتسبت الهند مواطن قوة ملموسة في الخدمات المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات، مثل البرمجيات ومراكز الاتصال. ولكن القسم الأعظم من قوة العمل في الهند يفتقر إلى التعليم والمهارات التي ينبغي استيعابها في مثل هذه القطاعات. في شرق آسيا، تم تشغيل العمال غير المهرة في مصانع بالمناطق الحضرية، الأمر الذي أدى إلى مضاعفة دخولهم عدة مرات مقارنة بدخولهم في الريف. وفي الهند، ظل هؤلاء العمال في الأرض أو انتقلوا إلى خدمات بسيطة، ولم تتحسن إنتاجيتهم كثيرا.

وبالتالي فإن التنمية الناجحة في الأمد الطويل تتطلب دَفعة ذات شقين، فهي تتطلب محركاً للتصنيع، مصحوباً بالتراكم المطرد من رأس المال البشري والقدرات المؤسسية لدعم النمو القائم على الخدمات بمجرد بلوغ التصنيع حدوده القصوى. ومن دون محركات التصنيع، فإن الانطلاقة الاقتصادية تصبح مختلفة تمام الاختلاف. ففي غياب الاستثمار المتواصل في رأس المال البشري وبناء المؤسسات، يُحكَم على النمو بالزوال.

بيد أن هذه الوصفة التي اجتازت اختبار الزمن أصبحت أقل فعالية هذه الأيام، وذلك بسبب التغيرات التي طرأت على تكنولوجيات التصنيع والسياق العالمي، فأولا، كانت التطورات التكنولوجية سبباً في جعل التصنيع أكثر اعتماداً على الاستثمار في المهارات ورأس المال مقارنة بالماضي، حتى على مستوى الطرف المتدني الجودة من الطيف. ونتيجة لهذا فإن قدرة التصنيع على استيعاب العمالة أصبحت محدودة أكثر من ذي قبل. وسوف يكون من المستحيل بالنسبة إلى الجيل القادم من الدول المنتقلة إلى التصنيع نقل 25% أو أكثر من قوتها العاملة إلى التصنيع، كما فعلت اقتصادات شرق آسيا.

وثانيا، كانت العولمة بشكل عام، وصعود الصين بشكل خاص، من الأسباب التي أدت إلى زيادة كبيرة في التنافس على الأسواق العالمية، الأمر الذي يجعل من الصعب على القادمين الجدد إيجاد المجال لأنفسهم. ورغم أن العمالة الصينية أصبحت أكثر تكلفة، فإن الصين لا تزال تشكل منافساً شرساً لأي دولة تفكر في الدخول إلى التصنيع.

ومن غير المرجح فضلاً عن ذلك أن تكون الدول الغنية متساهلة في التعامل مع سياسات التصنيع كما كانت في الماضي، فقد تغاضى صناع القرار السياسي في دول القلب الصناعي عن استحواذ دول شرق آسيا النامية على التكنولوجيات والقدرات الصناعية الغربية من خلال انتهاج سياسات غير تقليدية مثل إعانات الدعم، ومتطلبات المحتوى المحلي، والهندسة العكسية، وخفض قيمة العملة. كما أبقت دول القلب الصناعي أسواقها المحلية مفتوحة، الأمر الذي سمح لدول شرق آسيا بتصدير منتجاتها المصنعة بسهولة.

ولكن الآن، وبينما تترنح الدول الغنية تحت وطأة الثقل الهائل المتمثل بالديون المرتفعة والنمو المنخفض والبطالة والتفاوت في الدخول، فمن المؤكد أنها لن تتورع عن فرض ضغوط أعظم على الدول النامية لحملها على الالتزام بقواعد منظمة التجارة العالمية، والتي تعمل على تضييق المجال أمام إعانات الدعم الصناعية. ولن يتغاضى الغرب عن خفض قيمة العملة على الطريقة الصينية. وسوف يكون من الصعب للغاية على الصعيد السياسي مقاومة تدابير الحماية، حتى لو لم تكن في هيئة علنية.

إن الصناعات التحويلية سوف تظل بالنسبة إلى الدول الفقيرة بمنزلة «السلم المتحرك الصاعد»، ولكن هذا السلم لن يتحرك بنفس السرعة ولن يصعد إلى نفس المستويات المرتفعة السابقة. وسوف يعتمد النمو بدرجة أكبر كثيراً على إدخال تحسينات مستمرة على رأس المال البشري، والمؤسسات، والحكم. وهذا يعني أن النمو سوف يظل بطيئاً وصعباً في أحسن الأحوال.

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «مفارقة العولمة: الديمقراطية ومستقبل الاقتصاد العالمي».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top