فجر يوم جديد: أرضٌ مُحررة
للولايات المتحدة الأميركية سفارة في العاصمة المصرية هي الكبرى من حيث المساحة والأضخم على مستوى التمثيل الديبلوماسي، لكنها الأضعف على صعيد التأثير الثقافي على عكس سفارات دول أخرى على رأسها فرنسا.
تُفاجئ فرنسا المصريين في أبريل من كل عام بإطلاق «لقاء الصورة»، الذي تخصصه لدعم شباب السينمائيين المصريين، وتعريف الجمهور ومتذوقي الفن السابع بفنهم وموهبتهم، وتمنح لمخرج أفضل فيلم تسجيلي طويل وأفضل فيلم روائي قصير فرصة حضور مهرجاني «مارسيليا» و{مونبلييه» الفرنسيين، بالإضافة إلى جائزة الجمهور التي استحدثت هذا العام. وفي صالة العروض في المركز، بدأت عروض الأفلام التي تزيد على 70 فيلماً ما بين روائي قصير وتسجيلي وتحريك، تمثل أكثر من جهة إنتاجية من بينها المعهد العالي للسينما شركة «سمات» المركز القومي للسينما، جمعية النهضة العلمية والثقافية ومدرسة السينما في الجيزويت، بالإضافة إلى فيلم من إنتاج ماريان خوري وأفلام من إنتاج «الفيميس» وأخرى مُقدمة من المهرجان الدولي للفيلم التسجيلي والروائي بمارسيليا تشارك من أجل دعم المهرجان، لكنها لا تتنافس على جوائزه. أما النقطة المثيرة للاهتمام فقد فجرها إعلان المعهد الفرنسي أن «لقاء الصورة» في دورته الثامنة (2 - 9 أبريل) يرفع شعار «للكبار فقط»، بعدما نجحت إدارته في استقطاب أفلام مصرية وأجنبية تنطق بالجرأة والتحرر والتمرد سواء في مناقشتها للقضايا الفكرية، كما في الفيلم التسجيلي «الإمام» الذي يرصد نشأة التيار السلفي الوهابي أو تعرضها للموضوعات المتعلقة بالجنس، كما حدث في الفيلم الروائي القصير «حدوتة من صاج» إخراج عائدة الكاشف، وهي بالمناسبة كريمة المخرج الموهوب الراحل رضوان الكاشف، وأهدت فيلمها الذي استوحته من قصة حقيقية «إلى كل من لا نعرف عنهم شيئاً... وإلى كل من تناسينا وجودهم»، حيث نجحت في إقناع مراهقة شابة أجبرتها الظروف على التحول إلى فتاة ليل بالحديث عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أدت بها إلى هذا المصير المأساوي، وبأسلوب لا يخلو من التعاطف على الصعيد الإنساني، والتجريب على صعيد اللغة السينمائية، قدمت المخرجة الشابة فيلمها الروائي القصير الثاني الذي سيواجه بالتأكيد صعوبة بالغة في حال إقدام مخرجته على عرضه في المحافل والمنتديات الثقافية والسينمائية المصرية، فالأعراف الديبلوماسية تنظر إلى المراكز الثقافية الأجنبية باعتبارها «أراض مُحررة» تتمتع بقوانين الدول التابعة لها، ومن ثم تتحرر من سطوة وملاحقة الرقابة التي تطارد أي مصنف في حال عرضه على الأراضي المصرية، وهي المزية التي استثمرها «لقاء الصورة» بشكل واضح عندما انفرد بالعرض الأول في مصر لفيلم «في الليل يرقصن» (كندا 2010 /80 ق)، الذي أثار ضجة عند عرضه في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان»، لأن مخرجته إيزابيل لافيتي ومخرجه ستيفاني تيبو الكنديين اختارا امرأة هجرها زوجها، وتزوج من غيرها، وراحت تتحايل على الحياة بأن تتكسب رزقها من امتهان بناتها للرقص الشرقي في الأفراح الشعبية، والطريف أن الفيلم الذي قُدم في إطار تظاهرة بعنوان «كارت بلانش» خصصها المعهد الفرنسي للسيد جان - بيير ريم المفوض العام لـ «المهرجان الدولي للفيلم التسجيلي والروائي بمرسيليا» ورئيس لجنة تحكيم «لقاء الصورة» ليختار أفلاماً يراها جديرة بالعرض على جمهور «لقاء الصورة» أثار الجدل نفسه والانقسام ذاته، اللذين قوبلت بهما عروضه في المهرجانات السينمائية الدولية، حيث ضرب «البعض» عرض الحائط بكلمات جان- بيير ريم، وهو يقدم الفيلم للجمهور المصري قائلاً: «أكيد نظرتكم ستختلف عن نظرتنا إليه بعيون أجنبية»، وسارع أصحاب النظرة الضيقة كالعادة في مثل هذه الأحوال باتهام الفيلم بـ «الإساءة إلى سمعة مصر»، وهي التهمة التي تكررت بشكل آخر مع فيلم «نص ثورة» (72 ق، إنتاج 2011) وهو فيلم تسجيلي إنتاج مشترك بين الدنمارك ومصر شارك في إخراجه عمر شرقاوي وكريم الحكيم، وتحفظ عليه البعض، واستشاط البعض الآخر غضباً، لمجرد أنه وصف في عنوانه ومضمونه، ثورة 25 يناير بأنها «نصف ثورة» (!)، فالإساءة إلى سمعة مصر أصبحت «تهمة جاهزة» تُطارد أي فيلم يطرح وجهة نظر مغايرة أو يُعري واقعاً قبيحاً أو يفضح عورات تكشف المستور، وسواء جرى عرض الفيلم المثير للجدل في «أرض مُحررة»، كما حدث في المعهد الفرنسي من خلال «لقاء الصورة» أو في «أرض الخوف»، التي تهيمن عليها الرقابة، التي لا تكف عن «التحرش» بالإبداع والتنكيل بالمبدعين، فما زال بيننا من يرى أن «المسكوت عنه» فضيلة لا ينبغي المساس بها و{خطوط حمراء» لا يمكن الاقتراب منها!