إن الاحتفال الحقيقي بذكرى نصف قرن على بداية العهد الدستوري يجب أن يتعدى الأمور الشكلية المعتادة كالأغاني والقصائد والخطب الرسمية والتصريحات الإنشائية المرسلة ليكون مناسبة تاريخية للتوافق الوطني العام على خارطة طريق للإصلاح السياسي والديمقراطي الجذري والشامل، الذي يعتبر بوابة الإصلاحات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والثقافية.

Ad

سنحتفل الشهر القادم بمرور نصف قرن على إصدار الدستور الذي وضع أسس الدولة الدستورية الديمقراطية، ومن المفترض أن تكون هذه المناسبة المهمة فرصة للتوقف ولو قليلا لمعرفة ماذا تحقق خلال نصف القرن الماضي، وهي مدة زمنية طويلة نسبيا، خاصة أن الدستور ذاته نصّ على تطويره بعد خمس سنوات من إصداره؛ وذلك لمزيد من ضمانات الحرية والمساواة، فهل تحقق ذلك؟

من المؤسف القول إن العكس تماما هو الذي حصل خلال نصف القرن الماضي، إذ إن الدستور ليس فقط لم يطوّر بل تم التراجع عن الحد الأدنى الذي نصّ عليه في ما يتعلق بأسس النظام الديمقراطي القائم على المشاركة الشعبية وفصل السلطات وتطبيق مبادئ العدالة والحرية والمساواة، وما يرتبط بهما من قضايا مثل حرية الاختيار (التعليم مثالا لا حصرا)، وحرية الحصول على المعلومات وتداولها (رقابة الكتب والمطبوعات مثالا)، وتكافؤ الفرص (التمييز بين المواطنين في تولي المناصب العامة وغياب تكافؤ فرص التوظيف في بعض أجهزة الدولة ومؤسساتها العامة)، ناهيكم عن الانتقائية والتعسف في تطبيق القانون بشكل صارخ لا يستقيم إطلاقا مع الحديث المكرور عن دولة الدستور والقانون والمؤسسات الدستورية.

أيعقل بعد نصف قرن من الدستور أن تتشوّه فكرة المواطنة حتى في أذهان أطفال المدارس وطلبة الجامعة؟! إنه لمن المحزن حقا أن تصبح الهويات الصغرى كالقبيلة والطائفة والعائلة هي التي تتحكم بسلوك وتصرفات الجيل الجديد على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وذلك لأن الحكومات المتعاقبة كانت ولا تزال تصنّف المواطنين وتتعامل معهم من خلال قراراتها و"سياساتها" العامة الفاشلة ليس بوصفهم مواطنين دستوريين لهم حقوق متساوية، وعليهم واجبات متساوية أيضا، بل بحسب انتماءاتهم العرقية والفئوية والطائفية، وهو الأمر الذي يتضح جليا هذه الأيام في موضوع توزيع الدوائر الانتخابية ونظام التصويت، والتي تحاول الحكومة جاهدة، بحسب الخرائط التي سُربت للصحافة، تفصيله فئويا وطائفيا وفرضه من دون وجود مجلس الأمة!

قصارى القول إن الاحتفال الحقيقي بذكرى نصف قرن على بداية العهد الدستوري يجب أن يتعدى الأمور الشكلية المعتادة كالأغاني والقصائد والخطب الرسمية والتصريحات الإنشائية المرسلة ليكون مناسبة تاريخية للتوافق الوطني العام على خارطة طريق للإصلاح السياسي والديمقراطي الجذري والشامل، الذي يعتبر بوابة الإصلاحات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والثقافية، خاصة أن موضوع الإصلاح السياسي يأتي في مقدمة مطالب الحراك الشعبي والشبابي، وهذا يتطلب، أول ما يتطلب، تخلي الحكومة نهائيا عن فكرة انفرادها بتعديل الدوائر الانتخابية وحل مجلس 2009 فورا ثم الدعوة إلى انتخابات برلمانية على النظام الانتخابي الحالي.