ما لم يقله التاريخ يفضحه الشعر، فالمخبأ في معانيه وجوهره وتأويله ومدلولاته هو أكثر وأكبر مما يكشف عنه التاريخ، فالشعر قادر على كشف كل ما نسيه أو ستره التاريخ بسبب الغفلة والإهمال، وللأسف يُهمل هذا الجانب من البحث والدراسة الذكية التي تعيد النظر في أسرار هذه الكنوز المدفونة في طيات النسيان ولا يلتفت إليها الباحثون والدارسون إلا في وقت الحاجة إلى درجة علمية أو ترقية تفيدهم في حياتهم العملية، ولذا نجدهم لا يستفتون قلوبهم ومحبتهم تجاه ما يقدمونه، فهم يعتمدون على ما هو موجود ومطروح من قبل ما قدمه وسجله التاريخ المكتوب قبلهم.

Ad

أشار الزميل آدم يوسف في مقال جميل إلى هذه النقطة التي تحتاج بالفعل إلى عاشقين حقيقيين ليقدموا لنا متعة اكتشاف لذائذ كنوزنا العربية، وهذا ما وجدته في إعادة قراءتي لديوان عمر بن أبي ربيعة، شاعر الغزل الجميل والفاحش، فإلى جانب جمال الصور الشعرية الحسية الممتعة نجده يكشف عن طبيعة علاقة المرأة بالرجل خلال ذاك العصر، ومواصفات الجمال التي يعشقها الرجل العربي في ذاك الوقت، ونوع العلاقات والمعيشة الاجتماعية وأمور خاصة بذاك الزمن.

عمر بن أبي ربيعة، الذي ولد عام 643 م في ذات الليلة التي توفي فيها عمر بن الخطاب الذي سمي باسمه وهو يقربه من ناحية أمه، لذا قيل عن شعره بعد ذلك زهق الحق وظهر الباطل، لكن في الحقيقة هذا الباطل من أجمل ما كُتب في الشعر الحسي الغزلي الذي كشف عن تلك المواعيد الغرامية التي تدور في مواسم الحج والعمرة، وفي مناطق أداء المناسك مثل منى ورمي الجمرات والطواف وغيرها، فهو كشف عن طبيعة مجتمع يمارس هذه اللقاءات في عز ذروة الموسم الديني، وكنت قد رأيت في عمرة رمضان فتيات بمكياجهن في طواف صلاة العشاء، وهي فترة طواف الأمراء وكبار القوم، واستنكرت هذا الأمر حينها، ولكني اكتشفت من قراءتي لشعره أنها عادة قديمة وليست مستحدثة، وهذه أمثلة قليلة من ديوان ممتلئ بهذه المواعيد: ما نلتقي إلا إذا/ نزلت مني بقبابها/ في النفر، أو في ليلة / التحصيب عند حصابها.

يا خليلي، فاعلما أن قلبي / مستهام بربة المحراب، صاد قلبي اليوم ظبي / مقبل من عرفات / في ظباء تتهادى / عامدا للجمرات / قالت لترب لها تحدثها: / لنفسدن الطواف في عمر.

وكتب يتمنى: ليت ذا الحج كان حتما علينا / كل شهرين حجة واعتمارا.

الغريب أن هذه المواعيد واللقاءات تتم في سهولة ويسر حتى مع وجود الخوف من الفضح أو العقاب، كما أنها تكون في الصحراء في منتصف الليل، ومن السهل جداً الاهتداء بالنجوم والأبراج السماوية، فهي الدليل في ذاك الليل البهيم، وفي شعره الكثير من اللقاءات التي تمت بهدي الأبراج في الصحراء وحتى انبلاج الفجر، وهذه أمثلة عليها: حتى إذا الجوزاء وهنا حلقت،/ وعلت كواكبها كجمر موقد، / فطرقت باب العامرية موهنا،/ فعل الرفيق أتاهم للموعد.

فقامت، فقلت: بدت صورة،/ من الشمس شيعها الأسعد/ فجاءت تهادى على رقبة/ من الخوف، أحشاؤها ترعد.

وبعد أن ينتهي فعل الغرام يجب أن تمحى آثار اللقاء على الرمال، مما يدل على أن قراءة الأثر كانت سهلت وشائعة مما جعلها عادة في المجتمع، كذلك إزالته أيضا باتت عادة تابعة له، كما يقول هنا: ثم قمنا لما تجلى لنا الصبح/ نعفي آثارنا بالتراب.

حتى اللقاء في البيوت يبدو سهلاً، فمثلاً حين يذهب في منتصف الليل إلى بيت الحبيبة ووالدها ورجاله نائمون بالقرب منها، يمسكها من خصرها كما وصفه: حتى دخلت على الفتاة، وإنها/ لتحط نوما مثل نوم المبهج/ وإذا أبوها نائم، وعبيده/ من حولها مثل الجمال الهرج/ فوضعت كفي عند مقطع خصرها/ فتنفست نفسا، فلم تتهلج/ فلزمتها، فلثمتها فتفزعت/ مني، وقالت: من؟ فلم أتلجج/ قالت: وعيش أبي وحرمة إخوتي/ لأنبهن الحي، إن لم تخرج/ فخرجت خوف يمينها، فتبسمت/فعلمت أن يمينها لم تحرج/ فتناولت رأسي، لتعلم مسه/ بمخضب الأطراف غير مشنج/ فلثمت فاها، آخذا بقرونها/ شرب النزيف ببرد ماء الحشرج.

يا للهول، أو كما يقول إخواننا المصريون «يا لهوي؟» كل هذا حصل والأب وعبيده يطوقون الفتاة النائمة؟