لا يعتب المثقف على العامة ولا يعلق على رؤيتها للأمور، رغم أن في ذلك خطأ كبيراً. فكثير من العامة أكسبته الحياة والتجارب الحياتية نظرا ثاقبا يستطيع من خلاله أن يفهم الحاضر ويستشرف المستقبل. ولكن العتب غالبا ما يكون من نصيب المثقف الذي يطرح نفسه مبدعا وكاتبا خبر الحياة الاجتماعية لطبقات مجتمعه وعاصر معاناتهم، ويمتلك الترمومتر الذي يقيس به درجة الحرية التي يتنفسها أبناء شعبه. وما يعيب هذا الكاتب المبدع هو رؤيته الضيقة ونظرته الأحادية واقتصار قياسها على ما كان يعيشه هو بعيدا عن مجتمعه، وفي المجتمع العربي غالبا ما يكون هذا المثقف هو ابن النظام ومؤسسات النظام المعتاش على هباتها وعطائها ومراكزها الوظيفية. وخوفه من ثورة الشعب على هذا النظام أو ذاك هو ضياع كل تلك الهبات والعطايا من بين يديه.

Ad

إبراهيم الكوني أحد الروائيين الذين لهم صوت ابداعي لا نناقشه هنا، فهو كاتب تخصص، روائيا، في الكتابة عن الصحراء وطقوسها وكان صامتا جدا عما يحدث في ليبيا منذ أربعين سنة هو عمره الأدبي تقريبا وعمر حكم ديكتاتور ليبيا ومجنونها للبلاد. لم نسمع، ونتمنى أن يدلنا أحد لما يخالف رأينا لنعتذر من الرجل، عن خطاب نقدي لما كان يحدث في ليبيا. والكوني كاتب يعيش خارج ليبيا وليس محكوما بالخوف الذي يمكن أن نعتبره عذرا.

الكوني يرى، اذا كان يرى فعلا، بأن الثورات لم تجلب السعادة وأن أي تغيير مرتبط باللعنة. وهو يقول ذلك بعد سقوط صنم الطاغية في عاصمة بلاده وثورة شعبه التي دفع أبناء جلدته ثمنها. لم يقل لنا ابراهيم الكوني ما هي السعادة التي كان يعيشها الليبي في ليبيا أيام القذافي، وترك لنا أن نخمن هذه السعادة ونفهم ما هي اللعنة التي يريد تجنبها في مناهضته للتغيير. ويعترف الكوني، على مضض، بأن النظام القديم كان نظاما قمعيا وهو اعتراف جميل لكنه لا يعترف بأن التغيير هو الحل لأنه اللعنة. ولكي نحل هذه المعادلة الرياضية نحتاج الى رياضي بقوة عقل ابراهيم الكوني!

السيد الكوني يقول بأن الشعب يدفع ثمن التغيير، لكنه لا يحصد ثمرة هذا التغيير وذلك صحيح ولكن لدرجة ما. ونعيدها للكوني كما قلناها لغير الكوني: الخطوة الأولى للتغيير هي نفض رداء الرعب الذي ألبسته الأنظمة للمواطن العربي حتى توهم أن ذلك هو رداء قدري وإرادة عليا لا يمكنه التخلص منها. ان المناضل من أجل الحرية لا يضع أمامه نتائج الحرية وما ستؤول اليه الأمور لسبب بسيط فهو يعلم بأنه يضع روحه ثمنا لحريته، وهو لا يحسب حسابات السيد الكوني والمثال الذي ضربه الكوني عن فرنسا وثورتها حجة عليه لا له. ففرنسا اليوم هي الثمن الذي دفعه ثوارها. وليبيا ومصر وسورية وبقية الوطن العربي الذي نريده في المستقبل هو البلد الذي يستطيع صحافي مغمور أن يسقط الرئيس فيه ويستطيع ابن مهاجر كيني أن يرأس الدولة الأولى في العالم. لم يكن ذلك ممكنا قبل عدة عقود ولا أقول مئة عام. ما كان بإمكان هذا الفتى الأسود أن يسكن البيت الأبيض لو لم يتلق لوثر كنج رصاصة بيضاء وهوعلى شرفة الغرفة 306 في موتيل لوريين. لو لم يقتل ستيف بيكو في الغرفة رقم 619 تحت تعذيب الشرطة في جنوب إفريقيا عام 1977 لم نتعرف على رجل اسمه نيلسون مانديلا.

السيد الكوني خوفك الحقيقي ليس على الثورة من أبنائها ولكن من الثورة وأبنائها، ولهذا ترفض العودة الى بلدك لأن سيدك لم يعد هناك.