من أي الأبواب ندخل؟

يقرأ أحدنا نصاً ما فيتمتم: "يااااه ما أروع هذا الشعر"، وقد يبدأ في المقابل قراءة سطر شعري في ديوان ما، لكنه لا يكاد يكمل الصفحة التي بدأها!

تتوارد هنا أسئلة بشأن العوامل التي تصنع جمالية هذا النص أو ذاك، يتحدث بعضهم عن مسألة "الصدق الفني في القصيدة" وهو مصطلح ملتبس بقدر التباس مقولات الأقدمين حوله، وتنظيراتهم بشأنه، ولكن حين يتعلّق الأمر بقصيدة النثر على سبيل المثال نحن أمام حالة شعرية قديمة جديدة، حالة تتشكل وتتكوّن على غير هدى، ودونما خطوط محددة أو مبينة لمسارات القصيدة، وبرغم ذلك تبقى مسألة الصدق الشعوري، هي ما يصنع "حرارة النص" بحسب مقداد رحيم.

 ليس ثمة اعتبار هنا لشهرة الشاعر أو عدمه، فالنص النابع عن تجربة شعورية عميقة هو في الغالب يصل إلى مبتغاه من حيث دغدغة المتلقي، وملامسة وجدانه، ذلك مع التأكيد على ضرورة اكتمال الأدوات الفنية، والموهبة الشعرية لدى الشاعر، فالمنبع الشعوري هو ذاته، وعمق الإحساس الوجداني والحالة الشعورية قد تكون متقاربة لدى كثير من الكتاب، لا سيما عند الحوادث الكبيرة، والقضايا التي تمس أمة بكاملها، كما هو الحال في الحروب والكوارث الإنسانية التي يشترك فيها بنو البشر.

ولو تأملنا قليلا في التاريخ، فهناك كثير من الشعراء عاصر الحروب العثمانية، والنقلة النوعية في الحياة المصرية إبان حكم الخديوي، ولكن أحدا لم يستطع تجسيدها وتصويرها بدقة وجمالية فائقة، كما فعل أمير الشعراء أحمد شوقي، ويمكن الإشارة هنا إلى قصيدته "كبار الحوادث في وادي النيل" ومرثياته المشهورة للشخصيات العثمانية، الأمر ذاته ينطبق على الشاعر المصري الآخر أمل دنقل، ودقة تصويره للحالة الوجدانية العربية إبان نكسة عام 1967، وقصيدته المشهورة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" بل إن دنقل كان أشد صدقا وإبداعا في قصيدته الأخرى "لا تصالح" وهي مستوحاة كذلك من حدث جلل هز الأمة العربية آنذاك، وهي قضية الصلح مع إسرائيل.

الشاعر المُجيد بثقافاته الواسعة، ورؤيته المتجددة يحمل القصيدة إلى حيث يشاء، بل هو يلون الكتابة، ويخرج بها من زاوية سردية، إلى رؤية وجدانية متجردة، أو صورة شعرية معقدة، أو تشبيهات فنية مباشرة أو غير مباشرة، كل تلك العوامل تساعد في صناعة نص شعري محكم، ورؤية وجدانية متدفقة، واللافت أن قضية الوزن الشعري التي كان يوليها الأقدمون الأهمية القصوى تراجعت إلى الوراء، وأصبح النقد يتحدث راهنا عن عوامل فنية أخرى تصنع جمالية القصيدة، ليس من بينها الوزن.

ولعل مسألة الصدق الفني، والتباس هذا المفهوم هي ما تجعلنا نميّز بين نص شعري، كتب لمجرّد الكتابة، وليس ثمة دافع شعوري، أو شحنة عاطفية دافعة للكتابة، ونص آخر نابع عن تجربة حرّاقة، وانفعال ذاتي يدفع الشاعر إلى الكتابة دفعا، فكم من الدواوين التي نقرأها من دون أن نشعر فيها عمق التجربة، وذلك الصدق الشعوري والوجداني.

إن المشترك الإنساني يلعب دوره هنا في ترقية النص الشعري والصعود به عاليا، أو إلقائه إلى الأسفل، وربما ركله بالحذاء دونما اهتمام، فالحب حالة وجدانية مشتركة، والحرب قضية يتشارك فيها جميع بني البشر، والمدينة بكل تكويناتها وأضوائها هي ما يعيشه الناس جميعا، وكذلك الصحراء بكل فضائها، وأفقها اللانهائي، هي حالة شعرية تُغري وتحرك مكامن الكتابة، فمن أي الطرق ندخل إلى القصيدة، وبأي أداة نقدمها؟!