مأزق "الهويات القاتلة" التي كتب عنها الأديب أمين معلوف تفسر المفهوم البدائي للهوية وتجاوب عن تساؤله: "ما الذي يجعل الناس اليوم يرتكبون جرائمهم باسم هوياتهم، سواء كانت هذه الهوية دينية أو إثنية أو قومية أو غيرها؟"، ونستعين بها في تفسير الحالة المزمنة للاحتقان السياسي والاجتماعي في الكويت نتيجة صراع الهويات، وهي الحالة التي أبقتنا وستبقينا خارج الزمن ما لم نعالج تأزّمات الهوية ونفهم معناها الحداثوي... فالقابعون في سجون الهوية الثابتة الجامدة يمارسون تدميراً ذاتياً يقود المجتمع إلى الهلاك باسم الهوية، فيزرعون بذور الكراهية التي تنمو مع الأجيال عبر المنطق التعبوي.

Ad

يتشبث المتصارعون على الهوية على عوامل ماضوية أو أصولية أو عنصرية أو شوفينية (لدينا ما لذّ وطاب من هذه الهويات المدمرة في مجلس الأمة)، معتقدين أنهم إن تخلوا عنها أو فرّطوا فيها فقدوا هويتهم وألغوا وجودهم، وهو مفهوم خاطئ ومضلل بل ومدمر، ودوننا أمثلة عربية كثيرة.

مفهوم الهوية في "دولة الطوائف" يختلف عن مفهوم الهوية الحداثوي، الهوية لدينا تسجن الإنسان في قوالب جامدة تجرده من إنسانيته، إذ تطغى كل الهويات عليها، وتنظر إلى الآخر بدونية وتعالٍ ونرجسية، وتدعي تفوقها وأفضليتها، وتعمل على فرض قيمها على الآخر المختلف، فإقصاؤه في نظرها هو دفاع عن وجودها وكيانها، لذا يصبح الصراع صراعاً بدائياً يجتر الماضي من أجل البقاء، أما الهوية الحداثوية فهي الهوية المتعددة المرنة المتحركة المتجددة المنتجة التي تتشكّل من خلال صناعتها للمستقبل، هي الهوية التي تؤمن بالإنسان، وأن الناس سواسية في الكرامة الإنسانية لا تمييز بينهم في الأصل والدين والانتماء الفكري، وهنا يكمن اعتلال ديمقراطيتنا القشروية التي خنق الاستبداد السلطوي والاستبداد الديني جوهرها وروحها حتى الموت.

ذلك العقل المخاصم لقيم المواطنة وحقوق الإنسان يضع تعريفاً بدائياً للهوية الوطنية، فلم يكن للكويت هوية وطنية حسب الوصف الدقيق للصديقة إيمان البداح في مقال سابقٍ لها، فتقول "لم يكن للكويتيين قط أصل مشترك أو عادات أو تقاليد أو ثقافة موحدة، فبشكل عام حافظ كل عرق على إرثه من الوطن الأم سواء كان السعودية أم إيران أم العراق أم غيرها من الدول التي هاجر منها الكويتيون الأوائل". وهو الشكل الذي تقوم عليه معظم الدول في تكويناتها المختلفة والمتنوعة. إلا أننا نعاني في الكويت أزمة هوية مستفحلة للانتماءات الضيقة التي تعرقل تطورها وفتح آفاقها، لتتطاحن الهويات المتناحرة باسم القبلية أو الطائفية أو الفئوية أو الشوفينية، ويتجلى هذا الصراع ضد الفئات المهمشة في المجتمع كالبدون الذين يُعامَلون كدخلاء وخطر يتربص بالهوية الكويتية بالرغم من انتمائهم إلى نفس النسيج المجتمعي باختلافاته وتكويناته الثقافية بتنوعها، وبالرغم من أن المتسبب في تلك المشكلة هي الدولة التي استثنت أبناء القبائل من الإقامة قبل أكثر من خمسين سنة، فأقاموا فيها بشكل قانوني ليتعدل القانون دون أن يعالج المشكلة، وليصبحوا بين ليلة وضحاها "مقيمين بصورة غير قانونية".

أقامت مجموعة 29 (وهي مجموعة آمنت بالهوية الإنسانية واجتمعت تحت شعار المادة 29 من الدستور الكويتي التي تقول إن "الناس سواسية في الكرامة الإنسانية...") في الأسبوع الفائت ندوة "مبدعون بدون" تم خلالها عرض فيلم من إعداد الشاعر دخيل الخليفة أبرز فيه بعض نماذج البدون الذين أبدعوا في مجالات شتى بالرغم من الظروف القاسية... وقد استوقفتني تجربة د. خليفة الشمري الذي احتوته الهوية الحداثوية، ليقتلع من أرضه باسم الهوية ويهاجر من أجل هوية حداثوية حفزت فيه العطاء والإبداع والإنتاج، ليعمل ليلاً ويدرس نهاراً، وليتدرج بعد ذلك في مناصبه من عميد لكلية العلوم الطبية في إحدى الجامعات في أميركا إلى مدير للجامعة، ليشغل منصب نائب رئيس مجلس إدارة إحدى جامعات ولاية كاليفورنيا. وقد كتبت صحيفة القبس عنه "كويتي عميداً لكلية العلوم الطبية بكاليفورنيا"!

هذا هو الفرق بين الهويات الأيديولوجية الماضوية كمعاول هدم وإقصاء وتقهقر والهوية الإنسانية الحداثوية كمعاول بناء واحتواء وإنتاج.