الأندلس.. الحلم الضائع.. أمجاد الماضي.. العصر الذهبي.. لا تزال تروى أساطيرها الرومانسية التي تروي النزعات النرجسية في الذاكرة الجمعية للشعوب العربية والإسلامية، ولا تزال رواياتنا التي تجتزئ الصور المثالية لتصبغها على الصورة الكاملة لا تعرف عن الأندلس غير الشعر وتعايش الأديان وازدهار التجارة والعمران، وهذا صحيح، ولكنّ هناك تاريخاً كاملاً مسكوتاً عنه، يذكر على مضض دون وقفة تأمل ومراجعة نقدية، إلا قليلاً.

Ad

ولعله من المفيد أن أتطرق بإيجاز شديد إلى محطات من ذلك التاريخ الذي لا يزال يتفاخر به المسلمون، علنا نعتبر من دروس التاريخ بأن الصراع كان دائماً صراعاً دنيوياً على النفوذ والسلطة، ولم يكن صراعاً دينياً.

ومن ينظر إلى التاريخ مجرداً من العواطف فسيدرك أن خسارة المسلمين ليست في ضياع الأندلس، بل في القطيعة مع أهم شروط النهضة، وهي الفلسفة العقلانية التي هزمت في الأندلس، وهو نفس السبب الذي يعوقنا اليوم عن النهوض.

بدأت الحكاية حين سقطت الخلافة الأموية في دمشق بيد العباسيين ليهرب عبدالرحمن الداخل الأموي إلى الأندلس خوفاً من البطش والتنكيل والمجازر التي تعرض لها الأمراء الأمويون، ليقيم فيها حكماً أموياً عام 756م ينافس الحكم العباسي في بغداد والذي أرسل جيشه للقضاء على تلك الدولة الناشئة وضمها إلى الحكم العباسي، إلا أن عبدالرحمن الداخل أرسل رؤوس المهزومين إلى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور.

تأسس الحكم الأموي في قرطبة عبر وراثة سلالة عبدالرحمن الداخل للخلافة حتى ضعفت بسبب النزاع بين العرب والبربر، لتسقط بيد ملوك الطوائف (أعوان الأمويين سابقاً) الذين قسّموا الأندلس إلى دويلات يتناحر فيها الملوك بعضهم مع بعض، لتستغل الجيوش الإسبانية هذا الضعف والتشتت والتحارب للسيطرة على تلك الدويلات، إلا أنها اضطرت إزاء هذا الخطر الذي يهدد كيانها أن تستنجد بملك المرابطين في المغرب يوسف بن تاشفين الذي أرسل جيوشه لتلحق الهزيمة بالجيوش الإسبانية في معركة الزلاقة.

انتهت نشوة النصر باحتلال المرابطين (البربر) لدويلات الطوائف وخلع ملوكها. ثار بعد ذلك الموحدون على المرابطين، ليحارب الموحدون بقيادة أبي يوسف يعقوب المنصور قوات ملك قشتالة ويهزموهم في معركة الأرك عام 1195، إلا أن بداية النهاية كانت بعد معركة العقاب عام 1212 م التي هزم فيها جيش الموحدين هزيمة ساحقة، لتترك مماليك الطوائف عرضة لخطر الجيوش الإسبانية ومؤامرات ملوك الطوائف بعضهم ضد بعض، وتحالفهم مع الإسبان الذين استعانوا بهم ضد أعدائهم المسلمين من أجل السلطة والنفوذ.

وقد حاصرت الجيوش الإسبانية إشبيلية شهوراً بمساعدة مؤسس دولة بني الأحمر في غرناطة، لتسقط إشبيلية بعد معركة دموية طاحنة، وتبدأ الدويلات الأخرى بالسقوط واحدة تلو الأخرى، إلا أن غرناطة، التي كانت تدفع الضريبة لملك الإسبان، صمدت أكثر من مئتين وخمسين سنة لتدور الدوائر على غرناطة وتسقط عام 1492، حين سلم أبو عبدالله الملقب بـ"الصغير" مفاتيح الأندلس.

لا يذكر الوعي الجمعي من ضياع غرناطة إلا مقولة السلطانة فاطمة لابنها وهما يلقيان نظرة الوداع على المدينة من فوق تلة: "ابك كالنساء مُلكاً لم تصنه كالرجال!". هذا كل ما يبكيه ويرثيه ويتحسر عليه الوعي الجمعي الفصامي (الذي يفخر باحتلال الأندلس ويبكي على احتلال القدس)، أما الفلسفة العقلانية المتجسدة في فكر ابن رشد الأندلسي فقد أصبحت في غياهب النسيان حين انتصر الفكر المتشدد وموروثاته الجامدة الحرفية على دعوة ابن رشد لإعمال العقل في الاجتهاد وتأويل النصوص.

لم تكن هزيمتنا بسبب استرداد الإسبان للأندلس، بل بسبب موت فكر ابن رشد على يد الأصوليين والتقليديين والجامدين الذين حاربوه واضطهدوه وأحرقوا كتبه، وبينما يكثر تلامذته الأوروبيون الذين نهضوا بأفكاره التي التهمتها العقول، يحرق فكره في عقر داره ويصبح رماداً كأوراق كتبه التي التهمتها النيران. المفارقة العجيبة أن المسلمين الذين يتباهون بأن الغرب تعلم من فلاسفتنا لا يزالون ينتصرون للفكر السائد الجامد الذي حاربه ابن رشد وناضل ضده. يتحسر المسلمون ويبكون ويرثون منذ الأزل ضياع عصرهم الذهبي وفردوسهم ومجدهم وغزواتهم، لكنهم يجهلون أن الضياع الحقيقي هو ضياع العقلانية.