الهدنة

نشر في 17-12-2012
آخر تحديث 17-12-2012 | 00:01
 فوزية شويش السالم صدر عن دار كلمة الإماراتية، المتميزة فعلاً باختيارات إبداعية متفوقة بإحساسها الإنساني الرهيف، رواية الهدنة للكاتب المتعدد المواهب ماريو بينيديتي من الأوروغواي، وهو شاعر مشهور في إسبانيا وأميركا اللاتينية، وله روايات وقصص عديدة ذاع صيتها وانتشرت بين دول عديدة.

الكتابة اللاتينية تميزت بأنها لا تشبه غيرها، فهي لا تحاكي العادي والمعتاد، بل تتخطى كل النماذج الكتابية المستهلكة، وهذه الرواية جاءت عكس ذلك، فقد سارت في الطريق المعتاد في كتابات عديدة، وأقصد بها نموذج اليوميات، فمؤلف الرواية هنا لم يأت بشكل أو بتقنية جديدة كما هو معتاد من كتاب الدول اللاتينية، فقد اتخذ من تدوين سيرة حياة بطله شكلاً ونمطاً لكتابته، وروايته اقتصرت على راو واحد هو الأرمل الذي يترمل وهو شاب في 29 من عمره، ويعيش بقية حياته ليربي أبناءه، وهم ولدان وبنت، حتى يصل لعمر 49، وهناك يقع في حب صبية من عمر ابنته تعمل تحت إدارته في الشركة التي يعمل بها، وحين يقرر ان يتزوجها تمرض وتموت، هذه هي كل الحكاية مكتوبة بصوت راو واحد يدون يوما بيوم أحداث حياته وحياة من حوله من أبنائه وعشيقته والموظفين تحت إدارته فقط.

لكن سحر الرواية وقيمتها الأدبية العالية آتية من رؤية الكاتب لكل تفاصيل الحياة التي تمر به ومن حوله، وهي تفاصيل وتعاريف رائعة وجديدة ودقيقة آتية من عمق رؤية فلسفية ترى كل الأمور من حولها بعين متأملة لا يفلت منها شاردة أو واردة دون أن تقتنصها وتمررها في مصفاة التحليل الخاص بها، مما مكننا من الغطس والغوص في فهم أدق التفاصيل لمتاعب حياة أرمل كشفت عن أعماق الرجل وأحاسيسه التي تجهلها المرأة تجاه تربية الأبناء والحب والعمل والوظيفة والجسد والموت.

وسأنقل بعضا من تحليلاته ورؤيته العميقة التي هي أساس السحر ومنبعه في الرواية هذه، ومنها مثلا رأيه في الفساد في العمل فهو يقول: «في البدء كان الإذعان، ثم تلاه انعدام الضمير، وتبع ذلك في ما بعد التواطؤ الجماعي، لقد كان مذعنا سابقا ذاك الذي أطلق العبارة الشهيرة: «إذا كان الذين في الأعلى يبتلعون، فأنا أيضا سأبتلع»، والمذعن السابق لديه بالطبع الذريعة التي تبرر تخليه عن النزاهة: إنها الطريقة الوحيدة للحيلولة دون تفوق الآخرين عليه. فهو يقول إنه وجد نفسه مضطرا إلى الدخول في اللعبة، لأنه يعرف جيدا أنه لا أحد يموت بسبب النزاهة».

ويكتب عن ابنه الأصغر: «هذا الابن الذي لا يستقر في البيت، والذي يكلمني وكأنه مجبر على ذلك كواجب، ويجعلنا نشعر جميعنا بأننا أغراب في أسرته المؤلفة منه، ومنه وحده».

ويكتب عن الوحدة: «بينما تتحول العانس إلى امرأة ضجرة وأقل أنوثة يوما بعد يوم، ومهووسة وهستيرية ومهزوزة الشخصية، يتجه العازب كبير السن بالمقابل نحو الخارج، فيجعل من نفسه ظريفا، صاخبا، وعجوزا متصابيا. كلاهما يعاني الوحدة، لكن الوحدة بالنسبة إلى الرجل العازب هي مجرد حضور بيتي، وسرير فردي، أما بالنسبة للعانس فهي ضربة هراوة على الرقبة».

ويكتب عن الفروقات في ممارسة الجنس لدى المرأة والرجل فيقول عن لسان حبيبته: «إنك لن تستطيع فهم هذا، لأنه شيء لا تتسع له عقول الرجال الراجحة، فممارسة الحب بالنسبة إليكم هي مجرد إجراء عادي، شيء أشبه بقضاء حاجة صحية، ونادرا ما تكون مسألة ضمير. إنكم تحسدون على قدرتكم على عزل هذا التفصيل الذي يسمى الجنس عن الأشياء الجوهرية الأخرى، وأنتم أنفسكم من اخترعتم تلك البدعة القائلة إن الجنس هو كل شيء في المرأة، ابتدعتموها ثم شوهتموها، حولتموها إلى صورة كاريكاتورية لما تعنيه في الواقع.

ربما كان صحيحا أن الأنا الأنثوية هي مرادف للجنس، لكن لابد من معرفة أن الجنس لدى المرأة يتطابق مع الضمير، وهنا يمكن أن تكون الخطيئة الكبرى والسعادة الفضلى والمشكلة العويصة».

رواية عميقة في رؤيتها لكل تفاصيل الحياة، ومحملة أيضا بوصف حي ممتع لكل ما يمر بها.

back to top