ليلى العثمان
هناك مقولة تُنسب للأديب والفيلسوف الإنكليزي الساخر برنارد شو، قالها حين سمع بترشيحه لجائزة نوبل في الآداب، وذلك حين وصف الجائزة بقوله : "إنها أشبه بطوق النجاة الذي يُلقى إلى الغريق بعد أن يصل إلى الشاطئ". وهي مقولة ساخرة ولاذعة تصلح أن توجه إلى أي مؤسسة علمية أو ثقافية تتفضل بهذه المنحة بعد طول تلكؤ وتسويف، الأمر الذي يجعل من هذا التشريف مجرد تحصيل حاصل، أو حدثا فاقدا لرونقه وبهائه لكثرة ما رُكِن فوق الرف.نقول ذلك بمناسبة إعلان فوز ليلى العثمان بجائزة الدولة التقديرية لهذا العام. الجائزة التي أتت متأخرة عن مواعيدها المحتملة، في الوقت الذي كانت فيه ليلى قد وصلت إلى شاطئ الأمان، بل جلست تتشمس مسترجعة مشوار سباحتها الممتع والشاق. ورغم هذا الوصول الجميل فإن ليلى العثمان لا تفقد شهوة الكتابة أبداً، وتظل تتحدى قدراتها وزمنها الذي لا ينتهي، وكأن بينها وبين الورقة عهداً مستحقاً للوفاء. في الوقت الذي يكون فيه الآخرون من رفاق الدرب قد تساقطوا على فراش الدعة، وليس بينهم وبين أمجادهم الغابرة غير التذكّر والغبار. وعليه فليلى العثمان تبقى مستحقة للجائزة لسببين: الأول، انجازاتها السالفة عبر أكثر من ثلاثة عقود، والثاني لبقائها متألقة ومعطاءة حتى هذا اليوم.
وإن كان من البدهي أن يتميز كل مبدع ببصمة تخصه، فإن بصمة ليلى العثمان تتمثل بعنصرين: أولاهما، إبداعها في تشخيص الماضي المحلي، بل التماهي به حد (النوستالجيا) والحنين، خاصة أنها عاشت ردحاً من هذا الماضي في طفولتها. الأمر الذي يجعل كتاباتها أشبه بالتوثيق للتاريخ المحكي، والذي عادة ما يسقط من الذاكرة الشعبية مع تقادم الزمن. أما العنصر الآخر، فهو اهتمامها بعموم قضايا المرأة، عبر مشاهدات متقابلة ومتعارضة، تشخَص إليها بعين موضوعية تجمع بين التعاطف والنقد والفهم، دون السقوط في إغراءات خطابية لا يحتملها واقع الحدث أو الشخصية. ولعل الحديث عن ليلى العثمان يبقى شائقاً وممتعاً، ليس لكونها مبدعة في مجالها فقط، فذلك حقل قد أشبع بحثاً ومتابعة. وإنما بسبب كونها امرأة استثنائية استطاعت أن تطوّع ظروفها كما تريد وتشتهي، مصرّة أن تجعل مشوار الحياة أكثر خصوبة واحتمالاً، وأقل وجعاً وأكثر حباً، رغم الخسائر المستحقة. ولعل اشتغالها في حرفة الكتابة ومشاهدها القصصية قد أرهف لديها حاسة التوحد مع أوجاع العالم وارتباكاته وتفاصيله الجميلة والقبيحة. هذا الانغماس بالهمّ الإنساني ربما جعل الخط الفاصل ما بين حياتها وحياة أبطالها خطاً رفيعاً ومرهفاً، حتى بتنا نرى ليلى العثمان شاخصة في قصصها، ونرى أبطالها الخياليين يعبرون في حركاتها وسكناتها. بل لعلنا ما عدنا نرى فرقاً بين المشهدين، الأمر الذي يدل على حالة من التماهي بين الحياة والفن تمثلها ليلى العثمان بجدارة.وأعتقد أن حياة الواقع وحياة الإبداع ما كان لهما أن يجريا على هذه الشاكلة من التوازن والتناغم ما لم يكونا مدعومين بطاقة لا تنفد من الحب. فليلى العثمان امرأة محبة للحياة حتى النخاع، ترى ذلك في حيويتها الدافقة وحضورها المشعّ، وتراه في طلتها الأنيقة وألوانها المبهجة، وتراه في احتضاناتها الحميمة وإقبالها الحار على مباهج الحياة، وتراه في جماع تلك (الكاريزما) الجاذبة التي لا تشبه إلا نفسها.وإن كان ثمة خصلة أخيرة لهذه المرأة الرائعة فهي قدرتها الأصيلة على تطوير ذاتها وأدواتها الكتابية عبر رحلتها الإبداعية التي زادت على الثلاثين عاماً من العمل الجاد والجهد الدؤوب. لقد كانت ليلى العثمان وستظل تلك التلميذة المجتهدة في مدرسة الإبداع، لم تملّ التعلّم يوماً ولم تستكبر قط على الدرس والنقد. فليت الجيل الجديد يتعلم منها هذا الدرس في التسلق الحثيث والصبر على الطريق.