لم يعد هناك مجال للشك في أن الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، اتخذا موقفاً حازماً إزاء التطورات الجارية في مصر، ينطلق من تقديم الدعم الكامل للرئيس المنتخب محمد مرسي من جهة، والضغط المتواصل على المجلس العسكري للتنازل عن سلطاته المقننة وغير المقننة من جهة أخرى، بما يسمح بانتقال السلطة كاملة لجماعة "الإخوان المسلمين" وحلفائها السلفيين.

Ad

لم يكن هذا الأمر مفهوماً بطبيعة الحال لدى بعض المحللين الذين عاشوا عقوداً ثلاثة في أجواء دعم أميركي واضح لنظام مبارك وعدم توافق غربي واضح أيضاً مع التيارات الإسلامية المصرية، كما وجد آخرون صعوبة في استنتاج "التطمينات" التي منحها "الإخوان المسلمون" للأميركيين إلى الحد الذي مكنهم من الحصول على دعمهم الكامل.

ثمة تفسير سياسي يمكن أن يحل هذا الإشكال؛ إذ يمكن اعتبار أن الولايات المتحدة تجد في "شريك" إسلامي ذي نفوذ محلي قوي وصارم قدرة أكبر على الوفاء بالتعهدات من بقايا حكم عسكري يترنح.

لكن هناك تفسير "شعبوي" مثير للجدل يظهر على السطح؛ إذ يقول بعض نقاد الإسلاميين إن ثمة مشروعاً أميركياً- إسرائيلياً يهدف إلى إيجاد ترتيبات جديدة في سيناء تحل مشكلة الفلسطينيين عبر توطينهم هناك، وأن وجود حكومة إسلامية في مصر سيساعد على تحقيق تلك الخطة.

سيكون من الصعب معرفة الأسباب الحقيقية وراء دعم واشنطن الواضح لنفوذ مرسي "الإخواني" مقابل "العسكر" الذين يمثلون حليفاً مختبراً وموثوقاً على مدى أكثر من ثلاثة عقود، بعد استبعاد ذريعة أن واشنطن "تدعم الديمقراطية"، لكونها ساندت أنظمة قمعية عديدة في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية دون إعطاء تفسيرات مقنعة.

منذ اندلعت ثورة يناير، أطلق مسؤولون أميركيون تهديدات عديدة بخفض المعونة العسكرية للجيش المصري، الذي يحظى بمساعدات أميركية تبلغ 1.3 مليار دولار سنوياً، فضلاً عن مشتريات مستديمة من الأسلحة، وتوريدات مقبولة لقطع الغيار، وبرامج تدريب، ومناورات مشتركة مرموقة.

وتزامن ذلك مع تصريحات لمسؤولين أميركيين بارزين، على رأسهم وزيرة الخارجية كلينتون، أكدت مراراً اتساع الجفوة مع الجيش المصري، ودعمت بوضوح سلطة مرسي، وانتقدت ما أسمته قيام الجيش بـ"التدخل والهيمنة وإفساد السلطة الدستورية".

لم تقم واشنطن بأي حملة سياسية أو عسكرية على أي طرف في العالم من دون تمهيد نيراني كثيف عبر وسائل الإعلام ومراكز البحث الشهيرة، ولم تصدر قرارات باستهداف أي دولة أو نظام أو جهة من دون تلطيخ سمعتها والإغراء بها عبر التحليلات والمقالات.

على مدى نحو نصف القرن، كان من الممكن قراءة اتجاهات السياسة الأميركية في وسائل الإعلام والمؤسسات البحثية الغربية النافذة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية تحديداً. إن تلك الوسائل تشن حملة شرسة راهنا ضد الجيش المصري، ويطالب معظمها بالضغط عليه ليرضخ لـ"السلطة الشرعية".

قبل أسبوعين نشر معهد "غالوب"، نتائج استطلاع رأي سأل فيه المصريين: "كيف تقيم بقاء المجلس العسكري في السلطة بعد إجراء الانتخابات الرئاسية؟". وبالطبع، فإن أغلبية المصريين أجابت بأنه "أمر سيئ"، قبل أن يعود المعهد، في تحليله لنتائج الاستطلاع، إلى التساؤل عما "إذا كان من المثير للاهتمام معرفة مدى تأثير التحركات الأخيرة للمجلس في مقدار تآكل ثقة المصريين في المؤسسة العسكرية؟".

سيشير أي تحليل منتظم، مهما اتسعت عينته، إلى أن ثمة توجهاً كبيراً في دوائر صناعة الرأي العام الغربي إلى تحميل المؤسسة العسكرية المصرية المسؤولية عن تدهور الآمال في ربيع مشرق للثورة في مصر. لكن على عكس ما كان يقال سابقاً، فإن ذلك الانتقاد لا يحدث بسبب المخاوف من "الشتاء الأصولي" الذي تمثل في هيمنة جماعة "الإخوان المسلمين" على الأطر الدستورية الثلاثة الأساسية التي أفرزتها الثورة؛ أي منصب الرئيس، ومجلس الشعب قبل حله، والجمعية التأسيسية، ولكنه يحدث لأن العسكر، حسب تلك التحليلات، "معادون للديمقراطية".

الأخطر من ذلك، أن هذا التوجه لا يقف فقط عند حدود تحميل العسكر المسؤولية عن "تهديد الربيع المصري"، ولكنه يتبلور في توصية بـ"الضغط على العسكر"، عبر "إضعاف المزايا التي يحصلون عليها من خلال المعونة وبرامج التعاون".

تحت عنوان "الربيع العربي في مصر في خطر"، كتبت "الإيكونوميست" افتتاحيتها قبل أسبوعين، حيث قالت: "يتكل الجنرالات على المساعدات الأميركية ومن الواضح أنهم يتوقون إلى كسب السلطة من دون أي منافسة، ومن خلال الضغط عليهم للتفاوض مع مرسي، يمكن أن ترجّح الولايات المتحدة وأوروبا الكفة لمصلحة الديمقراطية".

وهو معنى لا يختلف كثيراً عما نشرته "ذي أتلانتيك"، للكاتب "شادي حامد" قبل أسبوع، حين قال: "لم يفت الأوان بعد كي تغيّر إدارة أوباما نهجها الراهن، تستطيع الولايات المتحدة حتى الآن وقف المساعدات العسكرية إلى مصر، لكن من المعروف أن استعمال أوراق الضغط يبقى مسألة شائكة، بعد أن تراجعت الولايات المتحدة عن تهديدها العلني بوقف المساعدات، يبدو أن التحديات الراهنة بدأت تقنع المجلس الأعلى للقوات المسلحة بأنه قد يخسر المساعدات هذه المرة فعلاً. لإعادة التأكيد على مصداقية الأميركيين (واستعادة أوراق الضغط المفقودة مع مرور الوقت)، تقضي أفضل طريقة بتنفيذ التهديدات التي يتم إطلاقها".

أما "بي بي سي"، فنشرت تقريراً في 23 يونيو تحت عنوان "الجيش يتحكم بإمبراطورية اقتصادية ضخمة"، كان آخر سطر فيه يقول: "وهذا يلخص كيف يتصرف الجيش كدولة داخل الدولة".

لا يستطيع أي منصف أن يدافع عن أداء المجلس العسكري المصري السياسي إزاء ثورة يناير منذ شهر مارس 2011 حتى الآن، فقد كان أداء مرتبكاً وعاجزاً ومعانداً لآمال المصريين، لكن الإنصاف يقتضي القول أيضاً إن هذا المجلس نفسه حال دون اتساع دائرة العنف، وحمى البلاد من الفوضى، وأدار انتخابات نزيهة.

بعد إصدار المحكمة الدستورية حكماً بحل البرلمان، وتصديق المشير طنطاوي عليه بقرار إداري، حاول الرئيس مرسي تحدي سلطة الجيش بقرار أعاد فيه البرلمان ذا الأغلبية الإسلامية للانعقاد، لكنه لم يلبث أن تراجع معلناً "احترامه لأحكام القضاء"، إثر هجمة عنيفة وانتقادات حادة وتهديدات مبطنة.

بدت ملامح صراع السلطة بين "العسكر" و"الإخوان" في قضية حل البرلمان، لكنها تتفاعل وراء الستار في كل مفاصل العمل العام، وتنذر بالتفاقم.

لا شك أن المصريين سيأملون في أن يحصل مرسي على "الصلاحيات" اللازمة لإدارة البلاد بوصفه رئيساً منتخباً، ولا شك أيضاً أنهم سيأملون في عودة الجيش إلى ثكناته ليقوم بمهامه الرئيسة، لكنهم لن يتفهموا كيف يمكن أن يحدث هذا عبر الضغط على الجيش لإضعافه، أو إيقاف المساعدات التي يحصل عليها، أو حرمانه من قطع الغيار ومبيعات السلاح الغربية.

فرق كبير بين تدخل سياسي تنجم عنه جهود لجعل قرارات الجيش السياسية تصب في مصلحة الديمقراطية، وبين ضغوط سافرة تضعف الجيش وتزعزع قدراته القتالية، التي لا يحتاجها أبداً في معركته مع مرسي، لكنه بالتأكيد قد يحتاجها في معارك أخرى.

* كاتب مصري