غريب إسكندر في «أفعى كلكامش»... لغة يتقاسمها الحزن والمجاز
قد تكون العودة إلى الأسطورة استرجاعاً لحقيقة موجودة في الحاضر على سبيل تأكيدها، أو بهدف تكثيفها، وجعلها لؤلؤة مثقلة باللّمعان، فتغدو ذات قدرة على البوح والإيحاء في آنٍ، وذات قابليّة أكبر للانتساب إلى الشِّعريّة. فالأسطورة حقيقة مفترضة، أو هي حقيقة تأخّر حدوثها فتكون، في هذه الحال، حقيقة الحاضر ولادةً لحقيقة كانت جنيناً طويل العمر في أحشاء الأسطورة.
في جديده الشعريّ «أفعى كلكامش» يستمرّ الشاعر العراقيّ غريب إسكندر واقفاً على ضفّة هي على كثير من الخصوصيّة، ملتزماً بالجملة المنسابة على هدوء، الحاملة على ظهر هدوئها صمت البحيرات، القائلة ما تريد بمجاز يمنعه الألم من أن يكون صاخبًا، أو احتفاليّاً، أو راغباً في كثير من الزينة لشجرة اللغة...
في جديده الشعريّ «أفعى كلكامش» يستمرّ الشاعر العراقيّ غريب إسكندر واقفاً على ضفّة هي على كثير من الخصوصيّة، ملتزماً بالجملة المنسابة على هدوء، الحاملة على ظهر هدوئها صمت البحيرات، القائلة ما تريد بمجاز يمنعه الألم من أن يكون صاخبًا، أو احتفاليّاً، أو راغباً في كثير من الزينة لشجرة اللغة...
يستهلّ اسكندر رسم أفعى أسطورته بـ»أغنية»، ويروي بضمير الغائب عن رجل يغنّي، يجتاز بصوته المفقود الليل الطويل ليصطاد بشبكة الصمت ربيعًا متأخّرًا: «غنّى الربيع/ الأزهار التي تنمو/ من بعد ليل طويل/ غنّى الشوارع/ لم يغنِّ الجدران/ ... لم يغنِّ بفمه/ كان صمته أبلغ أغنية»... لقد غنّى هذا الرجل الصامت أمكنة وناسًا، وسماء وجحيمًا... إلاّ أنّه امتنع عن غناء الجدران، ربّما لأنّها شكل من أشكال السجون، أو لأنّها بلا نوافذ كجدران المقابر، أو لأنّها تعني البيوت، واسكندر لم يجد بعد البيت الذي يستحقّ مديح القصيدة، البيت الذي لا يأذن الشرطيّ للنوم بالدخول إليه، البيت الذي لا يُحمَل على كتف الذاكرة من منفى إلى منفى مثل حكايات الطفولة وصندوق الأغنيات والأمثال الشعبيّة...يخاطب اسكندر «السيِّد» بعيدًا من العَلَميّة لتغدو اللفظة نفسها اسمًا علمًا، ويطلب منه عدم التأريخ للعدم والاستسلام للعبور الكارثيّ الثاني: «لا تقل ذهب الجميع/ أنت فقط من أراد الرحيل/ من سماء الوهم إلى سماء الوهم». تُرى، أيّ حقيقة ينشدها الشاعر؟ وأيّ وجود؟ وأيّ قضيّة للحياة؟... لا شكّ في أنّ الأرض تؤلمه، والمرأة أيضًا: «لا تتكلّم عن الأرض/ تكلّم عن البهاء الذي ينمو قرب هاوية/ ويموت قرب امرأة». وتكشف النصوص المتتالية أنّ الشاعر يعاني أرضًا تنتقل مع خطوه ليس في ترابها شهيّة إلى زهرة الطمأنينة، وامرأة لا تقيم إلاّ في جغرافية القلق والغربة المترامية على امتداد الروح.
مدح النهاياتلا ينسى اسكندر في خطابه السيّديّ الطويل أن يمدح النهايات، ويرفع قبّعة قلمه لبرودة القبر والوحشة: «أنعمْ بالنهاية/ ببرودة القبر/ بالوحشة التي تمجّدها الغربان»... وواسطة عقد المأساة أنّ سيّد الشاعر الطالع من قمقم الأسطورة، اللابس عباءة الواقع، لا يجرؤ على الحقيقة، ويدير ظهره للمعنى، فكأنّ الحقيقة رأس المعاصي، وفتح باب المعنى تحدٍّ لإله تقوم سلطتُه على حجب المعنى: «لماذا لا تقول الحقيقة؟/ لماذا لا تشير إلى المعنى/ كلّ المعنى؟» ولم يتأخّر الشاعر في أن يدلّ على الحقيقة بلغة صريحة الألم، خجولة المجاز: «هذا هو وطني/ موسيقى الخراب/ نواح لم نألفه من قبل/ أحضان كثيرة/ قديمة وجديدة: / لصوص/ قوّادون/ سماسرة/ عسكريّون/ نخّاسون/ بائعو شعارات»... نعم، إنّ اسكندر يلفّ على عنقه أفعاه الكلكامشيّة ويقف على شرفة عراقيّة حمراء مكتفيًا واللغة بمجلس عزاء يضمّهما وحدهما، معتصمًا بعماه: «أنا الأعمى/ لم أرَ كلّ شيء/ رأيت فقط الألوان التي/ تشير إلى الألم». ومن «كتاب الصمت» يعبر اسكندر إلى المرأة. ويبدو أنّه يختار صنفًا واحدًا من النساء، وأنّ امرأته لا تتغيّر من نصّ إلى نصّ، أو حتّى من كتاب إلى كتاب. هي دائمًا امرأة تقف خارج جسدها، لا يُحتفَل بأنوثتها تحت قناطر الحبر. تحضر قليلاً، وغالبًا ما يحضر ظلّها نيابة عنها. والشاعر يخاطبها بالإيقاع نفسه الذي خاطب به «السيّد»، إنّه عاشق يحتاج إلى الصّخب والضجيج والحركة والجوّ الاحتفاليّ، ويحتاج إلى محلّ هدايا يبيع غير الدّمع والحزن: «ليس الحبّ/ ولا حتى الدمع/ ليست عيناك/ ولا حتى رموشك التي تكحّلت بالأرق/... الموت وحده/ سيّد الأسئلة/ وسيّد الأجوبة/... كيف مرّ عليكِ/ في تلك الليلة الباردة؟!». ليس من السهل أن نفهم من هذا الكلام أنّ الشاعر يخاطب امرأة! إنّها امرأة يسبق الموت حبيبها إليها! إنّها تحتجب إلى أن تصير فكرة، وتتضاءل إلى أن تصبح حلمًا يسطو عليه الوهم، وإن كان النصّ يرجع إلى الواقع ليثبت أنثى الشاعر امرأة من لحم ودم: «ألبوم الصُّوَر القديمة/ درّاجة الأسى/ الخسارات التي لا نهاية لها/ وأحلام البيت الجديد/ الذي انتهى إلى محلّ حلاقة!».غياب العراقامرأة اسكندر مسكونة بالغياب مثل العراق، وهي حقيقة تعرّضت للاغتيال مثل الأرض، والشاعر محاصر بلغة قد لا يكون من السّهل جعلها متعدّدة تعدّد المواضيع التي تزور وجعه وخياله، فلذلك، ربّما، يلجأ إلى لغة واحدة تصطاد معانيها بشبكة واحدة. ومن «كتاب الصمت» يمضي اسكندر إلى «كتاب النسيان»، وكلّ كتبه موشومة بالحزن، فمن الغرابة حقًّا أن تستوطنه امرأة يملأ الحزن مرآتها فلا يترك فيها مساحة متواضعة ولو لعينيها: «الغياب الذي تجلّى في عينيكِ/ كان أكثر قسوةً/ من كلّ ميتاتنا السابقة». وإذا كان للفرح زيارة، فالشاعر وأنثاه من عالم آخر ليس فيه شفاه تتقن الابتسامة أو عروق تتّسع لقطيع نحل متخصّص في صناعة قفير السعادة: «كيف نحتفل/ بكلّ هذا الفرح؟/ كيف سنصغي إليه؟/ إنّه من عالم آخر/ عالم غريب عنّا»... ويلاحظ القارئ أنّ اسكندر يعتمد في أكثر من موضوع المباشرة العارية من كلّ إيحاء وهي تحتاج إلى النبض الشعريّ، وقد يرى أنّ حزن العبارة يكفيها ويغنيها عن المجاز، بينما النصّ يقول شيئًا آخر، فالهدر اللغويّ يسيء إلى الشّعريّة، مثلما يسيء الغموض والمجاز المغلق على نفسه ولا بدّ، دائمًا، من هندسة تراعي توزيع الظلّ والضوء في المشهد الشعريّ.يصل اسكندر إلى «كتاب الدمع» الذي تكتمل به مكتبته الحزينة، ويبوح بالتداخل بين المرأة والأرض: «لقد فقدتِ كلّ شيء تقريبًا: / الجذور التي تحدّثنا عنها طويلاً/ الهويّات التي يصبغها الألم/ الحب ذلك الذي كنّا نسوق أقدارنا إليه كقطيع تائه!»... وبعد تتالي البوح وتكرار ضمير المخاطب للمفرد المؤنّث، لا بدّ من أن يقع القارئ في شرك اللّبس والشبهة، ويشعر أن المرأة عند اسكندر هي ظلّ من ظلال الأرض وشكل من أشكال الوطن المسلوب، الدائم الإقامة في الغياب...في «أفعى كلكامش» كتب غريب اسكندر جملةً تبحث عن أمل في محبرة يحتاج سوادها إلى نجمة تتعذّر ولادتها، وحاول ملء الهوّة بينه وبين المرأة والوطن بالحنين واقعًا تحت صليب ذاكرته الكثيرة.