حيرتني رواية "حلم على نهر" للكاتب جار النبي الحلو، فحين انتهيت من قراءتها وجدتها لم تنته مني، بالرغم من بساطة أحداثها وسهولة بنائها وعفوية تراكيبها، فإنها استطاعت أن تأسرني "وتشتغلني" بحسب التعبير الشعبي المصري.

Ad

الرواية التي تبدو بسيطة وسهلة لو قُرئت قراءة سطحية تتناولها من خارجها فسوف يُحكم عليها بأنها رواية عادية لم تحمل كاتبها أي مشقة، فهي مثل "حواديت" الجدات في بساطتها، لكن ما يبدو على السطح ليس هو مضمون ما تحمله الرواية، فجار النبي الحلو كاتب كبير من كتاب ستينيات القرن الماضي اللامعين، من جيل جمال الغيطاني ويوسف القعيد وإبراهيم أصلان وغيرهم من أدباء مصر المميزين، وعلى هذا فليس من المعقول أن تكون حصيلة نضج تجربة مسيرة إبداعية طويلة رواية سهلة بسيطة كما تبدو في ظاهرها.

الرواية تحكي عن حلم رجل في امتلاك بيت مبني على ضفاف النهر، وبالفعل يخرج من بيت والده مع زوجته وطفليه ليسكن في بيت شيده في منطقة موحشة على النهر، لكن النهر يبدأ في نخر أساسات بيته مما يدفعه إلى جره على جذوع الأشجار ونقله إلى نقطة أبعد من ضفاف النهر، وينقل معه أيضاً الحديقة الصغيرة التي زرعها بحب؛ شجرة، شجرة، وغصنا، غصنا، وطبقا، طبقا، حتى ينهي عملية نقلها، ثم يقوم بهدم جدار البيت بعد أن خرت على رأسه أول نقطة مطر، ونقل كل ما فيه قطعة، قطعة إلى خيمة نصبها بجوار داره التي هدمها ليعد بناءها للمرة الثالثة بالطوب الأحمر الذي اشتراه من خندق الإنكليز، ليملك أول بيت في القرية مشيدا بالطوب، ومقاما على النهر في بقعة نائية بعيدة عن بيوت القرية المتآلفة في ازدحامها وتكتلها في روح العيش الجماعي المختنقة، ليكون أول رجل يعيش ويبني لأسرته بيتاً خارج منطقة التآلف هذه، مما يثير الاستغراب ويدفع بمزيد من الأسئلة، لكن الرجل يستمر في حلمه الذي حققه بامتلاكه بيتاً حفر له قناة ليصل عبرها ماء النهر ليروي كل أشجاره التي أحبها، وليسعد أسرته التي بدأت تكبر، ويكبر معها حلمه بتعليمهم وذهابهم إلى المدارس وبارتفاع مبنى الدار طابقاً ثانياً حتى يتسع لعائلته، لكن هذا الحلم يغيب في ازدحام هذا الخلاء الجميل الممتد على ضفاف النهر الذي يبتلعه التكاثر السكاني والبناء العشوائي الذي يقضي على سمات وتفاصيل روح المكان بنهره الذي رُدم ودُفن بأطنان من التراب لتمر عليه سكة القطار البشع القادم، وليغيب المكان الجميل بنهره وأشجاره وطيوره التي تبتلعها القرية القبيحة ببيوتها العشوائية وبزيادة سكانها المطردة، ويبقى المكان بنهره مجرد سيرة تسكن ذاكرة رجل كانت موجودة ذات مرة.

أهمية الرواية تنبع من قدرتها على الإحساس الهائل في روح المكان وصيدها في لقطات رائعة، حنونة ودافئة وحميمية بشدة لأنها ولدت من "نستالجي" تغلغلت في روح عاشت تفاصيل هذا المكان عندما كان للمكان روح في ذاك الوقت الذي كانت فيه للمكان شخصية ووجود قوي، هذه القدرة لم تعد متوافرة لكتاب جيل التسعينيات من القرن الماضي والألفية الثانية التي ازدحمت فيها القرى والمدن بالكم البشري الهائل الذي توسع وامتد وابتلع تفاصيل روح المكان بحيث بات كل متر مشغولا بحياة فرد ما على حساب حياة المكان ذاته، فلم يعد الناس يشعرون بروح المكان بسبب ازدحام أفراده، وهو الأمر الذي يفرض حضوره في كتابات الأجيال اللاحقة التي لم تمتلك الفرصة في الإحساس بجوهر المكان بذاته، لكنها شعرت بالتصاق البشر الخانق، وهو ما أدركته من قراءة رواياتهم وقصصهم، فكيف يدركون خاصية المكان، وهم مزدحمون فيه مثل علبة سردين لا يدرك سمكها نوعية الوعاء المحشورين فيه.

جار النبي الحلو نقل هذا الفقد للمكان ونعاه في رثاء متنبئا ومدركا لحال مستقبل قادم بل مهرول على عجل كاسح ما لم يأت حل قدري رهيب يوقف هذا الازدياد البشري الهائل المبتلع للأرض ولطبيعتها ولكل ما فيها.

حلم على نهر رواية امتلكت ذاكرة مكان قبل محوه وابتلاعه، بكتابة بسيطة وعفوية وبروح شفافة تشبه ذاكرة الأطفال، لكن محملة برؤية فلسفية عميقة لشجن الجدود الذين أدركوا النهر عندما دفن وغاب وعندما باتت البحار مجرد مساحات مائية لأحواض حمامات سباحة كبيرة نسبيا، وباتت الصحارى قصوراً ومنتجعات.