مصر بين اليأس والمجازفة
ما كتبه رفعت السعيد وهالة مصطفى في كتابيهما اللذين عرضناهما في الأسبوعين الماضيين هنا على هذه الصفحة من "الجريدة"، هو نوع من الخشية على مستقبل مصر، وكأنهما أرادا أن يقولا لنا أن اليمين الحاكم إذا فشل في الحكم فهناك الليبرالية والليبراليون الباقون، وأن مصر ولاَّدة– كما يقال– ولا تخلو من القادة الأوفياء لها، كما لا تخلو من المفكرين والمثقفين والصحافيين والفنانين، وباقي نخب المجتمع المصري.وكما سبق أن قلنا، فإن مصر والمصريين بحاجة الى الصبر والتأني، ولنعلم أن جزءاً من الفوضى والخشية التي تعانيها الآن، هو ما كان طبيعياً ومتوقعاً، سواء حكم اليمين مصر، أم حكمها اليسار، أم الوسط المعتدل، وكتبنا في الأسابيع الماضية وعلى هذه الصفحة من "الجريدة" نقول للمصريين:
"على المصريين جميعاً في الداخل والخارج، أن يدركوا جيداً التحديات الكثيرة التي تواجه الرئيس الجديد، ويساعدوه على حلها، بالتزام الهدوء، والصبر، والأناة، وعدم إرباكه بقضايا، ومشاكل فرعية، وجانبية".ورئيس الدولة الآن، راح يتحرك بسرعة من أجل إنقاذ الاقتصاد المصري، فزار السعودية، والصين، وإيران، وجاء بعقود وعهود، نأمل أن تساعد في إنقاذ مصر من محنتها الاقتصادية، فمصر بلد فقير مادياً، وتعاني في حقيقة الأمر أمراً خطيراً، وهو "الانفجار السكاني". كما تعاني عدم استطاعتها مادياً على استغلال كثير من مساحتها الزراعية لإطعام الملايين من السكان المتزايدة سنوياً زيادة كبيرة بلغت الآن أكثر من 90 مليون فرد، وفشلت كل التدابير الحكومية في تحديد النسل، وذلك بفعل التدين المصري الشعبي، الذي يحول دون تحديد النسل تحديداً دقيقاً، كما جرى في الصين. أما ما تقوله بعض أطراف المعارضة، من أن عدد السكان في الهند كبير، وهي دولة فقيرة ومقارنتها بمصر، فهذا قياس فاسد تماماً، كما يقول أهل المنطق، لأن نمو الدخل القومي الهندي من أعلى النسب في العالم، وبلغ في السنة الماضية 2011 حوالي 6%، بينما الدخل القومي المصري لم يتجاوز 1.5%. والتقدم التكنولوجي الهندي، يفوق كثيراً ما لدى بعض الدول الأوروبية، حيث استطاعت الهند أن تقيم "الدولة الإلكترونية الحديثة"، بكل ما تعنيه هذه العبارة. وأن تتبع تفاصيل حياة كل مواطنيها، الذين فاق عددهم في 2011 المليار و210 ملايين نسمة، ونأمل أن يستعين الرئيس مرسي بالصين التي أصبحت قريبة الآن من مصر، لتنفيذ خطة جديدة لتحديد النسل، وتنجح فيها مصر هذه المرة، كما سبق أن نجحت الصين، ولو كان هذا من غير المتوقع، لأن الصين تحكمها إيديولوجية علمانية، بينما تُحكم مصر الآن بإيديولوجيا دينية!يكفي المصريين ما قاموا به!سوف يقول لنا التاريخ غداً، إن ما قام به المصريون في 25 يناير 2011، كان سبباً في أن يتمَّ التنوّع في صفوف أكبر فصيل ديني في العالم العربي، وهو "الإخوان المسلمون"، فظهر منهم "حزب الوسط " بقيادة أبوالعلا ماضي، وظهر منهم "حزب النهضة" بقيادة محمد حبيب. كما ظهر "حزب الحرية والعدالة" الذي يرأس رئيسه السابق مصر الآن، وظهر منهم "مرشح الرئاسة" عبدالمنعم أبوالفتوح.وكان الخطأ الأكبر والأفظع، الذي ارتكبه التيار الليبرالي وغيره من التيارات الحداثية الأخرى، أنهم تركوا للتيار الديني حبل الإسلام على غاربه، وجعلوا- بهذا الترك، وبهذا الإهمال- التيار الديني، وكأنهم الأوصياء الوحيدون على هذا التراث، يفسرونه كما يشاؤون، ويطبقون منه ما يشاؤون، يأخذون منه ما يشاؤون، ويتركون ما يشاؤون، ويرفعون منه ما يشاؤون من الشعارات. وبدا الطرف الآخر من الليبراليين وغير الليبراليين كفرة، فجرة، وملحدين، ولا يمتون إلى الإسلام بصلة! كما لم يقم الليبراليون ببيان فلسفة وآثار الليبراليين الكلاسيكيين المسلمين أمثال: الفارابي، والكندي، والرازي، وابن سينا، والتوحيدي، وابن رشد، والنظّام، وغيرهم، رغم أن الراحل عباس محمود العقاد سبق أن قال في كتابه "الإسلام في القرن العشرين... حاضره ومستقبله" أن الليبراليين هم الأقدر على تجديد "التفكير الديني". حال مصر كحالنا قبل أكثر من عشرة قرون (750-2012م)تتمثل مصر لي الآن، كما كانت عليه حال العرب في بداية العصر العباسي الأول (750- 861م).ويقول عباس محمود العقاد:"إن أمثال هذا العصر في تواريخ الأمم، يتسم بسمات الانقلاب، ويشيع فيه اليأس من جانب، والمجازفة من جانب آخر. ويتبدل فيه الولاء غير مرة، بين النجم الآفل، والنجم الطالع، ولا تطول فيها الثقة بشيء، حتى تثوب الأمور الى قرار".ولقد سبق أن وصفنا الثورة المصرية في بداية 2011 بأنها انقلاب يشبه الانقلاب العسكري عام 1952، كما لاحظنا خلال عام 2011 وهذا العام (2012) أن مصر شاع فيها اليأس من جانب، والمجازفة من جانب آخر. وأن الولاء للثورة المصرية كان منقوصاً وما زال منقوصاً حتى الآن، والناس خائفة من المستقبل الجديد، الذي لا قِبلَ لهم به، ولا يعلمون كيف سيكون، ولكن المصريين جازفوا المجازفة التي تحدث عنها العقاد، وانتخبوا مرشح اليمين المصري (مرسي). وهم موقنون، أن اليمين المصري سيمكنهم من حياة أكثر رغداً من حياتهم في العهود السابقة. ولا شك، أن مصر في وضع عسير الآن. ولا شك، أن مهمة الرئيس مرسي مهمة صعبة، وشاقة. فمصر تعاني قلة الموارد الطبيعية المتاحة، وتعاني التهديد المتواصل بتقليل كميات مياه النيل، نتيجة لبناء بعض الدول الإفريقية التي ينبع منها النيل، أو يمر بها سدوداً كثيرة، مما سيفقد مصر ملايين الأمتار المكعبة من المياه، إضافة إلى ما تقوم به "بحيرة ناصر" من تخزين للطمي في أسفلها، يُحرم الأرض الزراعية المصرية من سماد طبيعي ضروري.كما أن زيادة عدد العاطلين عن العمل، ارتفعت إلى أكثر من 12% في هذا العام 2012، ويضاف الى هذا كله، ضعف الدخل القومي، فقد كان معدل دخل الفرد المصري السنوي في عام 2011، 1500 دولاراً فقط. وهو من النسب المتدنية جداً في العالم، حسب التقرير الأخير للبنك الدولي، وزاد الطين بلّة– كما يقال- الموقف الإقليمي والدولي، فمعظم الدول المحيطة والقريبة من مصر، وكذلك الدول الغربية، المانحة للقروض والمساعدات المالية، غير راضية عما جرى في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011. فمصر هي "بارومتر" العالم العربي، وكلنا يعلم أن مصر الناصرية، امتد أثرها إلى بلاد الشام، والخليج العربي، والمغرب العربي (1952-1970). وأن تحوّل مصر الحالي من دولة وارثة للعهد الناصري إلى دولة لاغية لكل آثار ثورة 1952، وتحوّل حزب "الإخوان المسلمين" من حزب محظور ومطارد، إلى حزب يجلس في مقعد رئيس الجمهورية، كل هذا قد أقلق أنظمة كثيرة. وكان على الرئيس الجديد للجمهورية مواجهة هذا التحدي، خاصة أن مصر بحاجة شديدة إلى جيرانها لفتح أسواق جديدة للعمالة المصرية المتدفقة، وللتخفيف من آثار أزمة البطالة التي يعانيها المجتمع المصري، والتخفيف من هجرة الشباب المصري في "قوارب الموت" إلى أوروبا. إضافة لذلك، فمصر بعد ثورة 25 يناير 2011 تطمع أن تصلها هبات مالية لا قروض، فهي مثقلة بالديون الخارجية والداخلية.ولكن مصر الآن ليست مصر القرن التاسع عشر، والرئيس مرسي ليس الخديوي إسماعيل، والدول الدائنة أصبح يضبطها البنك الدولي، ورغم أن في نفس الدول الخليجية غصة من الثورة المصرية، فإن هذه الدول لن تقبل بانهيار مصر، وستعمل على ازدهارها لما لمصر من أثر حضاري وديني على منطقة الخليج عامة.* كاتب أردني