لم تنجح المقاطعة
في صبيحة 11 سبتمبر، وفيما كان مبنيا التجارة العالمية يشتعلان بالدخان والفزع والموت، كان أول ما فعلته سيدة أميركية في شيكاغو أن هُرِعت إلى فتاة سعودية تقيم في الجوار تدق بابها، وتسألها: "هل أنت بخير؟ هل تقيمين عندنا حتى تهدأ الأمور؟"، هل تقر هذه السيدة التي تعاطفت مع الفتاة السعودية ما فعله "القاعدة" وتتعاطف معه حين حمت الفتاة، أم أنها كانت تعمل وفق قاعدة العدل الأخلاقية "ولا تزر وازرة وزر أخرى"؟وحين وجهت تهمة إلى سعودي يدرس في أميركا وجدوا في قائمة اتصالاته اسماً لبن لادن، جمع له جيرانه الأميركيون مبلغاً من المال لتوكيل محامٍ يدافع عنه أمام القضاء، فيما تناوبت نساء مسيحيات في نيويورك على حراسة مسجد خشية حملة انتقام مسعورة. تُرى ماذا كانت تريد أن تقول هذه الممارسات إن لم تكن تدلل على ثقافة أناس استطاعوا أن يمارسوا أخلاقهم في عز الفجيعة والمصاب، وأن يروا الحقيقة الأخلاقية العادلة الواضحة التي تقول: "ولا تزر وازرة وزر أخرى".
أليست هذه هي عقيدتنا نحن؟ فلم تتجلى في مجتمع آخر فتصبح قواعد سلوكه أكثر عدلاً منا؟ ماذا لو برر أحد منهم أن انتهاك أمن فتاة سعودية صادف وجودها في أميركا هو انتقام ممن قتلوا ثلاثة آلاف إنسان منهم، وهل قتلها سيعيد الحق إلى أصحابه؟ أعرف أنها أمثلة تكاد تسقط في خانة البدهيات، لكننا للأسف نحتاج إلى شرحها دائماً لأننا في مقابل جمهور يصم آذانه ويغلق عيونه ويضع نفسه في صورة المحب لرسول الله، ومن يخالفه يصبح من الخونة أو ضعيف الإيمان. ما يحدث اليوم في مصر وليبيا واليمن من مهاجمة للسفارات الأميركية وممثليها أسفر عن قتل السفير الأميركي في ليبيا، حيث تسلقت الجدران وأحرقت ونهبت المباني، وأشاع ذلك الفزع تحت حجة الانتقام من صاحب فيلم مسيء للرسول عليه السلام، بينما هي مجرد قصة قديمة تتجدد كلما أراد أحد أن يحقق مكسباً يدفع ثمنه أناس أبرياء وتضيع الحكمة فيه وتنتصر الحماقة.آمل هذه المرة ألا تكون فاتحة عهد يعيد تشنجات 11 سبتمبر وكلاكيت "القاعدة" من جديد وترشح المنطقة العربية لحرب دينية، فالناس عادة لا يذهبون إلى الحرب من أجل الحرب، بل يحتاجون دائما إلى أيديولوجيا تغذيهم وأن يُخدروا بالشعارات والكذب، وليست الشعارات الدينية إلا أسخنها وأكثرها اندفاعاً وجنوناً.حين هاجت لواعج الناس بسبب رسم كاريكاتوري استسلم الناس لراسمي خريطة العداء والمقاطعة، دون أن يشرح لهم أحد أن المسيء لرسول الله ليس ممثلاً لحكومة الدنمارك ولا لشعبها ولا لمؤسساتها، ولا حتى للجريدة التي نشرت الرسوم، بل إنه ممن يستغلون حرية التعبير التي يكفلها الدستور الغربي فيهزأ من مقدسات الآخرين، وكذلك حين هدد القس الأميركي بتمزيق القرآن لم تفعل الحكومة الأميركية شيئاً إلا أن تطالبه بعدم المجاهرة بذلك علناً في مكان عام، وها هو فيلم رديء الصنعة هزيل المحتوى يعيد الحكاية، والمثل يقول الثالثة ثابتة، لكنها تكررت دون أن نتعلم درساً واحداً في منهج ضبط النفس واللجوء إلى المحكمة والقانون، بل ظللنا نهيج الشارع ونشحن الغوغاء الذين لا يستطيع أحد كبح جماحهم متى انطلقوا.الذين سمحوا بأن يتفوق علينا الآخرون في تطبيقهم لمنهج الإسلام وفق مبدأ "لا تزر وازرة وزر أخرى" ساهموا أيضاً في أن تظهر مجتمعاتنا في صورة غوغاء يتسلقون جدران السفارات بحجة الانتقام، وكأننا مجرد عشائر بدائية تعاني سقم العقل والمنطق، ونحن في هذا نهديهم صوراً ستظهر في صحافة العالم، فكيف نقول هذه المرة إننا لسنا كذلك؟