الإنسان بين الرحلة والراحلة... قصيدة البحث لخالد سعود الزيد
محاولة للفهم والتذوق لنص شعري صوفي
ليست رحلة الحياة يسيرة، بل هي مليئة بالعناء والوحشة، لا سيما إذا تعلّق الأمر بشاعر خبر المتاعب، وعاش لحظة التجلّي، والتماهي مع الذات، شاعر زهد بالحياة، من أجل روح الحياة، وتعمّق في الوجود، وارتشفت روحه خلاصة الزهد والمعرفة، إنه الشاعر الكبير خالد سعود الزيد في ذكرى رحيله.
ليست رحلة الحياة يسيرة، بل هي مليئة بالعناء والوحشة، لا سيما إذا تعلّق الأمر بشاعر خبر المتاعب، وعاش لحظة التجلّي، والتماهي مع الذات، شاعر زهد بالحياة، من أجل روح الحياة، وتعمّق في الوجود، وارتشفت روحه خلاصة الزهد والمعرفة، إنه الشاعر الكبير خالد سعود الزيد في ذكرى رحيله.
سأظل على راحلة الأسفارِعلى كتفي مزود ظمأى
ينهشها ليلٌ وحشي الأنيابأدرك شاعرنا خالد سعود الزيد – رحمه الله- أن الحياة رحلة ممتدة في صحراء الألم، تشرق فيها النفس تارة، وتظلم تارة أخرى، لكنها لن تتوقف، البنية الجسدية هي الراحلة التي يمتطيها، والعقل هو (المزودة) التي يتزود منها ويتزين بها، ولا تحسب أن هذه الراحلة وتلك الأسفار يسيرة بل كلها عناء، عناء الوحشة التي ترسمها النفس في قيامها في هذه الراحلة، الليل هو عالم من عوالم النفس موحش، حيوان له أنياب، حيوان يسيطر على قيام الإنسان، وكلما كانت المزودة ظمأى كان الليل وحشي الأنياب. فمتى الإياب؟ ومتى الوصول إلى الوِرْد؟هكذا نبدأ الرحلة، رحلة البحث عنه في غياهب النفس، وفي مسارب الروح، تبدأ رحلة الإنسان الذي ما زال مصلوباً في الدرب، مقتولاً في الحرب، مذبوحاً في الحبِّ. دَرْبٌ قتلاه بلا حَدِّ. وهل للحقيقة المطلقة حَدّ يحدّها؟ وهل للموت أسباب يلوذ بها؟الموت بلا أسباب، والقتل بيد الأحباب حياة. بقاء. فناء. زاد يتزود صاحب الرحلة.اقتلوني يا ثقاتي إنّ في قتلي حياتيولكن النفس بطبيعتها ضجور، وصبرها قليل، نفور، لا تكاد تصبر على طعام واحد، ولا شراب واحد، فتتعلل بالأشواك لأنها لم تعرف الأشواق بعد، لم تذوق طعم زاد الهوى، ولم تشرب زلال الصبر ليقوم فيها وبها معنى الحقيقة، وتتجلى لها وبها معاني الطريقة.ما زال التيه أباهوهمّي التكوينيبحث في الطين عن الطينإنسان الطين. إنسان الخليقة. مازال في جلباب قيامه الطيني يتكاثر، ويزداد كثافة، لأنه يبحث عن الحقيقة في الطين في مادّي قيامه، ولم يتأمل في الطين ومقلوبة (نَيْط) أيّ الموت والأجل. فما استطاع أن يموت عن هواه ليحيا في مولاه.تطالعني سماوات تنادي أيها المسحور بالطين تأمل سر تكوينيفمن يطالع من؟ ومن ينادي من؟ هل ثمة حق موجود سواه؟ وهل عندما أنادي أنادي سواه، أو أناجي غيره؟يا بركان الأرض السابعة المزوياطعمني من زادك شيئاًمازالت مزودتي ظمأى تنتظر الريالإنسان في جلبابه الطيني في قيامه الخَلْقِّي لا يدرك معنى الحقيقة، ولا يعرف أنه الخليفة، انشغل بالعرض وفرّط بالجوهر، فصار عبد المظهر، وعبد المادة، وعبد الطبيعة، ولو عرف الحقيقة لسعى إليها دون سواها، لصار قلبه بيتاً للرب، بيتاً للذكر، بيتاً للعبادة، لصار قلبه منبراً و إماماً ومحراباً وعَلماً على الحقيقة بين الخليقة. فمازال الإنسان هو الإنسان ينشغل بالطعام وبالشراب:أَرانا موضِعينَ لِأَمرِ غَيبٍوَنُسحَرُ بِالطَعامِ وَبِالشَرابِيطلب التزود و الطعام من أرض الذات، من الحطمة وما أدراك ما الحطمة؟ يطلب من باطن الأرض زاده وما علم أن في السماء رزقكم وما توعدون.فالأرض هي المهد واللحد للجسد، أما الروح وما تطلبه من زاد في سماء الذات، وفي سمو الصفات، في معنى الحق المستور في جلابيب الذات فهي المتدثرة في معنى الصفات: يا أيها المدثر قم وأنذر، فالقيام هو نهوض من حال إلى حال، من حال الدثار إلى حالة الإنذار، فمازالت الأستار والحجب تحول بين المرء وربه فلا تزول إلا بالتطهير:ثيابك فطّهر، أي قلبك/ قيامك فمتى صلحت تلك المضغة صلح قيام الإنسان واستقام.لا شئ سوى الأحلام المكذوبةفي صحراء تنام على حافات النهر المنسيلا صحراء سوى الإنسان الذي مازال متدثراً بالطين والأدم، متعلقاً بالأحلام المكذوبة، والراحلة المنهوكة المثقوبة، وما النهر المنسي إلا الحقيقة التي لا يعيها ولا يتقرب لها إلا من كان طالبها وساعياً إليها بكله.أشتاقك برقاً يلمع مرةألقي في أحضانك كل شجوني(شجون من شجون الأمس ملأى من جراحاتيوأقدامي لأشواك الأسى والتيه مزبلةوأهاتي يضيق بها المدى المسعور أهاتي)هي ومضة، هي نور يقذفه الله في قلب الذات فتشتعل من أدناها إلى أعلاها شوقاً ووجداً ونوراً يسجد لله، ويسبح بآلائه، إنه يطلب المزيد في رحلة ذكر، الله مبتداها، ورسول الله سدرة منتهاها قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها. يا رسول الله خذ بيدي، يا رسول الله يا سنديهكذا يردد المرتحل في رحلته، يطلب من رسول الحقيقة، وعبدالله، أن يأخذ بيده نحوه، أن يكون له المسجد والقبلة، إذ يدرك المناجي في وحدته أن لا سبيل إلى الوصول إلا بالرسول. لأنه هو من أدرك معناه في مبناه، وعرف الحق فصار عنواناً للحقيقة. مدينة بها يمتد دين الله. بابها عال وسورها متين، من أرادها وقف بالباب، وطلب الإذن، وخلع النعل، وألقى الحجاب، ثم يسجد للقبلة حتى يأتيه اليقين. لتعيها أذن واعية، انها أذنك يا علي، إنه وعيك في فهم معنى الحقيقةوإدراك حالها ذكراً ومعرفة:فتعيد التكوين الأولَ للفطرةحين عيوني طمست في ليل ظنونيأوقفني في مقام الصحوة وقال: قف عن التَفْكير وانشغل بالتَّفَكر، يا ابن الفطرة الأولى، فطرة الله التي فطر الناس عليها. هل أدركت معنى وجودك؟ والسبب في خلودك؟فما استطعت جواباً، وانعقد اللسان، وسبح الفكر في عالم نوراني التكوين، فزجرني وقال: يا هذا، إن كل من (صحا) بي فهو صاحبي، ومن أصحابي، من أحبابي، من أمتي.فأدركت أن أعمال الإنسان هي التي تطمس عيونه عن رؤية الحقيقة، فالظنون حجاب، والشعور حجاب، والغريزة حجاب، والأنا حجاب، وكل ما يدور في فلك الحواس حجاب.ويعيد الدرب الكرة المرة تلو المرة هكذا هو الإنسان فيه النسيان، وفيه الأنسان، يطلب الحق وينشغل عنه في الدرب، ليس مرة بل مرات، فلا يبصر إلا ذاته المشوشة المشوه المقلوبة والمتجلية في النفس المبتورة. إذ نفس الإنسان هي سفن/ غرائز تعدو نحو الدرب، نحو الكسب، نحو التمكين في أرض الذات دون الوعي أن الرحلة إلى الأعلى، إلى الأرقى، ليس مكانا ولكن وجداناً:يا صحراء الألم الممتدسلمت بأن الرحلة وجديبدأ بالإنسان الكون ويرتدإن الإنسان هو الإنسان في رحلة وَجْد في الوجود، يريد من خلالها أن يوجد ويتواجد حباً وقرباً من معنى الحق فيه، وبه تتجدد من معناه الأشياء وتولد.المرة تلو المرة، من ظمأ وجوع يتواجد الإنسان ويوجد، كي يتواجد في صحراء الألم الممتدة من مهد الخليقة إلى لحد الحقيقة. "ادفن نفسك في أرض الحقيقة"ألا ياحبذا السفرلكم أشتاق للنورأذوب وفيه انتشرعود على بدء هي رحلة الإنسان حاملاً مزودة ظمأى منشداً قول صاحبه/ سابقه الذي كان يوماً يبحث عن الحقيقة قائلاً:وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسيوَلا جَلستُ إِلى قَومٍ أُحَدِّثُهُمإِلّا وَأَنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسيوَلا ذَكَرتُكَ مَحزوناً وَلا فَرِحاًإِلّا وَأَنت بِقَلبي بَينَ وِسواسيوَلا هَمَمتُ بِشُربِ الماءِ مِن عَطَشٍإِلّا رَأَيتُ خَيالاً مِنكَ في الكَأسِوَلَو قَدَرتُ عَلى الإِتيانِ جِئتُكُمسَعياً عَلى الوَجهِ أَو مَشياً عَلى الرَأسِمالي وَلَلناسِ كَم يَلحونَني سَفَهاًديني لِنَفسي وَدينُ الناسِ لِلناسِ