سأروي لكم اليوم حكاية شغلت تفكيري لأيام عدة بعد قراءتها ومشهدها الأخير لا يزال ماثلا أمامي كأني أراه رأي العين وأنا أسأل نفسي كل مرة: لماذا فعلها؟! وفي كل مرة أجد نفس الجواب: لأن ضميره الحي أراد ذلك!

Ad

"وليم... وماري" شاب وشابة ممن كانوا يتهافتون على الزواج خلال الحرب العالمية الأولى، وقد مرت سنوات زواجهما التي شارفت على الخمس بين مد وجزر، بين أشهر طويلة من فراق يبلغ منهما الجهد والإعياء، تتخللها فترات قصيرة لا تزيد على أسبوع أو أسبوعين تزخر بالعواطف المحمومة تنقضي وهما في نشوة لا تستمر، وكان عليهما في نهاية الأمر أن يجاهدا ليستمرا في عيشهما الرتيب، ويبذلا طاقتهما للاستمرار في حياة فاترة فقدت أهم دافع لها للاستمرار وهو الحب الذي ربط بين قلبيهما فيما مضى، ولم يبق من جذوته اليوم شيء كثير!

ثم حدث ذات ليلة أن تشاجرا وبلغ الخصام ذروته بينهما، ليصرح كل منهما لصديقه المقرب بأنه ينوي الطلاق من شريكه، الصديقان وهما زوجان أيضا "فريد.. وكلارا" اقترحا عليهما الخروج معهما لتناول العشاء، ومن ثم الذهاب إلى السينما لعل في هذه النزهة الجماعية ما يطيّب القلوب ويقرّب بينهما، وقد وافق الزوجان على مضض بعد أن قرر كل منهما قراراً شبه نهائي بإنهاء هذه العلاقة الزوجية!

وبعد أن تناول الجميع العشاء اتخذوا سبيلهم إلى السينما، وفي أثناء اجتيازهم شريط السكة الحديدية في مفترق الطريق زلت قدم "ماري" اليمنى في تجويف الشريط وأصبحت في مأزق لا تستطيع معه أن تخلص قدمها منه، ولا أن تنزع قدمها من حذائها، وفي هذه اللحظة كان قطار سريع يقترب، لقد كان أمام الزوجين متسع من الوقت لاجتياز الطريق، أما الآن- وهي تجاهد لخلع حذائها- فلم يعد أمامهما سوى ثوانٍ معدودات.

ولم يكن في وسع سائق القطار أن يراهما إلا حين ظهرا فجأة أمامه على الشريط، فجذب حبل الصفارة وأوصد صمام البخار وأمسك بالفرامل، وكان بصره قد وقع على شخصين ثم على ثلاثة، فقد اندفع عامل الإشارة في مفرق الطرق ليأخذ بيد ماري، وكان وليم جاثياً على الأرض وهو يحاول في جنون أن يفك رباط حذاء زوجته لكنه لم يتمكن لضيق الوقت، فأخذ هو وحامل الإشارة يجذبان ماري لينقذاها في اللحظة التي أقبل فيها القطار عليهم.

حينئذ صاح حامل الإشارة: "لا أمل.. لن تستطيع أن تنقذها" وقد استيقنت ذلك ماري أيضا فصاحت بزوجها: "دعني يا وليم دعني" وحاولت أن تدفعه بعيداً، لم يكن أمام وليم سوى ثانية واحدة يختار فيها بين الحياة والموت فقد أصبح من المستحيل عليه أن ينقذ ماري، ولكنه لم يزل يستطيع النجاة بنفسه، ومن خلال ضجيج القطار المقبل، سمع حامل الإشارة صوت وليم وهو يطوق زوجته بذراعيه قائلا: "سأبقى معك يا ماري" فتعانقا حيث كانا، وكان القطار يلقي نوره على محياهما، لقد أبى أن يتركها... فماتا معا! لم يتحمل وليم، وهو الذي كان ينوى الطلاق من زوجته أن يكون "نذلاً" في تلك اللحظة ويتخلى عنها، مع أن الجميع كان سيعذره على النجاة بنفسه، لكنه أدرك أن ضميره لن يرحمه بقية عمره، وأن وجه ماري سيظل يلاحقه أينما ذهب، وكان عليه أن يختار بين أن يعيش مع تأنيب الضمير أو يموت وهو مرتاح الضمير، فاختار الموت على أن يكون نذلاً في تلك اللحظة الحاسمة!

هكذا أراد أن يموت "وليم"، شجاعاً، وإنساناً، لم يستطع التخلي عن امرأة كان على وشك الافتراق عنها وذهاب كل منهما إلى حال سبيله، فانظر إلى حاله وتفكر في أحوال كثير ممن نزعت من قلوبهم الرحمة والإنسانية وماتت ضمائرهم، فلم يعودوا يشعرون بها في حياة ملؤها النذالة والحقارة والسفالة بكل صورها دون أن يرفّ لهم جفن أو يشعروا لحظة بوخز الضمير، لله درك يا وليم... فمثلك قلائل!