في لهجة تشي بالتعالي والغطرسة، فضلاً عن الرغبة الواضحة في ازدراء فن السينما، والاستهانة بالدور «الاستراتيجي» الذي قد يؤديه، ويؤثر به في الشعوب والأمم، يعن لبعض «المتحذلقين» انتهاز فرصة انعقاد الندوات السينمائية والمناسبات الثقافية في مصر، وبعض الدول العربية، للتقليل من قدر السينما ومكانتها، بالقول إن «السينما لا تغير الواقع، وليس من مهمتها أن تجد حلولاً للمشاكل»، وإن «السينما لا تقود الثورات»!

Ad

مقولات خادعة وكاذبة ومُغرضة سرعان ما يتبين خواؤها؛ خصوصاً إذا علمنا، من واقع الشواهد والملفات والوثائق، أن ثمة أفلاماً مصرية نجحت فعلاً في إجبار حكومات على تغيير القوانين، وأخرى كان لها دورها الفاعل والمؤثر في شحذ الهمم، وتحفيز النفوس، وتبصير العقول، من خلال رصد مظاهر الفساد، وانتقاد «الطغاة»، وتأليب الجمهور، وحثه على مقاومة الأنظمة «الدكتاتورية»، ودفعه للثورة عليها والإطاحة بها.

لا تحدث الثورات بالطبع فور انتهاء عروض الأفلام، بمعنى أن يخرج الجمهور، فور إضاءة أنوار القاعة، بعد كلمة «النهاية»، ليُعلن احتجاجه على نظام ما أو يُطالب بإقالة إحدى الحكومات، لكنها، أي الثورات، تحدث بالتراكم، وتكريس الأفكار «التقدمية»، التي تُسهم في تنوير الجمهور وتوعيته، ومن ثم تحريضه للانقلاب على الأوضاع القائمة الفاسدة، وهو ما فعله المخرج الكبير يوسف شاهين في أفلامه الأخيرة، كذلك توفيق صالح وعاطف الطيب والألماني فريتز كامب في فيلمه الشهير «لاشين» (إنتاج 1938)، الذي تنبأ، حسب النقاد والباحثين والمؤرخين، بثورة يوليو في مصر قبل قيامها بأربعة عشر عاماً‏، وبسبب خطورة طرحه، وخشية السلطات في ظل الاحتلال الإنكليزي لمصر من رسالته التحريضية، أصدرت السرايا الملكية قراراً بإيقافه، بعد عرضه لمرة واحدة عام ‏1938‏، وظل حبيس «العلب» المغلقة بالشمع الأحمر إلى أن قامت الثورة وأفرجت عنه!

على الجانب الآخر، يُدرك المغرمون بالسينما المصرية والكارهون لها أنها نجحت، من خلال بعض الأفلام التي أنتجتها، في إجبار حكومات على تغيير قوانينها والتراجع عن استبدادها، كما حدث في أعقاب عرض فيلم «جعلوني مجرما» (إنتاج 1954) الذي كتب قصته فريد شوقي مع المنتج رمسيس نجيب وأخرجه عاطف سالم، ونجح في دفع الحكومة على إلغاء السابقة الأولى للمسجون، وتكرر الأمر مع فيلم «كلمة شرف» (إنتاج 1972) قصة وبطولة فريد شوقي وسيناريو وحوار فاروق صبري وإخراج حسام الدين مصطفى، الذي كان سبباً في إقناع وزارة الداخلية بالسماح للمسجون بزيارة أهله في الحالات الإنسانية التي تقتضي هذا. أما فيلم «أريد حلاً» (إنتاج 1975) تأليف حسن شاه وإخراج سعيد مرزوق وبطولة فاتن حمامة فقد كان سبباً رئيساً في تغيير بعض مواد قانون الأحوال الشخصية المتعلقة بقضايا الطلاق والنفقة، وهي المواد المعمول بها حتى يومنا هذا.

فيلم «ابن بابل» إخراج العراقي محمد الدراجي وأحد من الأفلام العربية التي أنتجت أخيراً، وكان له إسهامه الكبير في توقيع اتفاقية بين المنظمة العالمية للمفقودين، ومقرها دولة البوسنة والهرسك، وبين وزارة حقوق الإنسان العراقية، تهدف إلى تأسيس مشروع للتعرف إلى الجثث المجهولة للعراقيين، والتي اكتشفت عقب أربعين عاماً من الحروب والنزاعات والاضطهادات، وفضحها الفيلم أمام دول العالم.

أجبر «ابن بابل» الحكومة العراقية أيضاً على تغيير أهم القوانين المتعلقة بضحايا المقابر الجماعية، ومنها القانون المتعلق بتعويض النساء اللاتي فقدن أزواجهن أثناء الصراعات والحروب بالعراق، كذلك نجح عقب عرضه داخل البرلمان العراقي في الضغط على الحكومة في إصدار تشريعات تضمن حماية المقابر الجماعية، والاهتمام بالجثث مجهولة الهوية من خلال فحص الحامض النووي لثلاثة آلاف عينة، وبيان إمكان تطابقها مع تسعة آلاف عينة للعراقيين، بعدما كانت الجثث تُدفن من دون التعرف إلى أصحابها. كذلك كان للفيلم تأثيره الإيجابي في جمع خمسين ألف توقيع حول العالم لتأسيس حملة تسلط الضوء على المفقودين في العراق إبان نظام «الطاغية»!

دلائل وقرائن وشهادات هي قليل من كثير يؤكد، بالدليل القاطع، أن السينما تؤدي دوراً محورياً وتنويرياً و{استراتيجياً» عظيماً ومهماً للغاية، وأن التهوين من دورها والتقليل من شأنها، يخفي أهدافاً خبيثة، ونوايا سيئة، كذلك يستهدف تعطيل دورها في كشف الحقائق، وتعرية السلبيات وفضح المآخذ، وينسف دعوتها إلى إحداث تحولات سياسية واجتماعية تصب في صالح الوطن والمواطن، وهي أهداف نبيلة تسعى إليها السينما. لكن «البعض» لا يريد، في ما يبدو، أن تنجح في تحقيقها، ويتعمد الإساءة إليها أمام جمهورها... لغرض في نفس «المتحذلقين»!