بعد جيل كارل نيلسون ظهر في الدنمارك موسيقي لا يقل موهبة عنه، ولكنه يقل شهرة بالتأكيد. فاونهولمبوVaganHolombo (1909 ـ 1996) لم يُعرف في عموم الغرب إلا في مرحلة متأخرة. ولحسن الحظ أني تعرفت على موسيقاه لأول مرة عبر عمل استثنائي، تحت عنوان «قداس جنائزي لنيتشه». فكم يستهويني العمل الذي تتعانق فيه الموسيقى والشعر والفلسفة على هذا المستوى من الرفعة.

Ad

موسيقى هولمبو مفعمة بالمشاعر ولكن وفق ضوابط، ومهذبة رقيقة ولكن  في أفق ثقافة واسع وعميق. العمل وضعه المؤلف عام 1964 لصوت الباريتون (طبقة رجالية وسطى) والتينور (طبقة رجالية صداحة) والكورس مع الاوركسترا، معتمدا مجموعة «سونيتات شعرية» وضعها صديقه الشاعر الدنماركي توركِلدبيورنفج، بالغ الشهرة في بلده وحده، ونشرها ضمن مجموعة شعرية تحت عنوان Figure and Fire. إعجاب الموسيقي بالقصائد كان وليد قناعته بأنها تسعى إلى أن «تعزز من مواقفنا وتنمي ثوابت ونظماً عالية للحقائق الفنية في زمن الارتباك والاضطراب والتمزق وحتى اليأس». وإعجاب الشاعر بالموسيقي كان وليد إحساسه بأنه «يجد فيه فضولاً فكرياً لا يلين، واستهدافاً للُباب الإشكال من أي زاوية كانت، وهي خصائص تميز الفنانين الكبار، وكذا الفلاسفة والعلماء».

القصيدة لا تتابع قصة حياة نيتشه(1844 ـ 1900) بل تصف رحلة داخلية لهذا الفيلسوف، باتجاه التنوير العقلي والجنون معاً. تستوحي حياته وأفكاره، عبر تأويلات رمزية لما عرف من تطلعاتها وكشوفاته ومعتركه الداخلي، ثم انهياره التراجيدي المبكر. العمل الموسيقي بالغ التعارض في متطلباته للصوت البشري، بين همس وأداء عالٍ، كما يتطلب فطنة من المستمع في هذا التعبير الطليعي عن مدار تتداخل فيه الموسيقى والشعر والفلسفة. الرائع هو في متابعة النص الشعري العميق عبر بدائله اللحنية في موسيقى الاوركسترا وأصوات المغني المنفرد. ففي مفتتح الجزء الاول نطل على مشهد لحني وشعري لصحراء:» يخطو فيها المسيح داخل البرية، شابا متطلعاً لمواجهة الرب. وعلى ضوء القمر يرتقي أعلى الجبل، وقد استشعر الوحدة والهجران». بهذا يدخل الكورس بلحن يعيده صوت الباريتون ولكن بإيقاع أسرع وبلهجة تأملية:

«أكُتِبَ على الأشياء أن تتضاعف في الهدأة المحترقة؟

أيتها الواحات، المدن الرائعة، والعوالم المجيدة،

المتبددة في السراب على امتداد الرمال.

ها هو ظله يغادره، ويصبحان اثنين».

يتردد بعده صوت المسيح (أو نيتشه، أو أي مبدع!): «اذا ما تعبدتني، فهذا كل ما ستملك»، ممثلا بندائه كل التطلع «الفاوستي» الخالد باتجاه المعرفة.

في الحركة الثانية تحت عنوان «بازل»، التي قضى فيها نيتشه سنوات عشر محاضراً، ندخل موسيقى كورال هامسة، متكلمة، صارخة:

«في قلب الجلبة. تنافس السوق وصخبه،

حيث التقت الحقيقة مع الخوف...».

الكورس هنا يمثل «السوق الضاج بالبائعين وذرا التلال الطوال والليل الغيهب والصبح المتعب» الذي عرفناه لدى الشاعر السياب في قصيدته «العودة لجيكور». ولكنه أيضا مسرح الفشل الانساني والشك الفلسفي الذي عبّأ كتابات نيتشه جملةً. في هذه السنوات كان شديد الاعجاب بفاغنر وموسيقاه، ولذلك نسمع أصداء موسيقية من أوبرا «تريستانوأيزولدة» تتردد هنا.

في الحركة الثالثة «الأصدقاء» يغني صوت الباريتون بعنف رؤيا نيتشه:» رأى في ريح الفجر النرد الذهبي...». رؤيا الفرس رمز الحيوية الطبيعية، التي كانت آخر عهد نيتشه مع سوية عقله عام 1889. في الرابعة تُعلن دعوى نيتشه بموت إيمانه، ثم تلي النتيجة واضحة بأن موت المعتقد الديني لن يُحِل الانسان من تبعة مسؤوليته الأخلاقية. الحركات التالية تدخل متوترة في حقل الجنون النيتشوي المضطرب، على شيء من لحظات صفاء غريبة الطابع تنفرد بها آلات مثل الفلوت، السَّليستة، وآلة النقر الفيبرافون. تحل النهاية قبل الخاتمة في مدينة فايمر على صرخة نيتشه: « يا أُخت، خذي الريح بعيداً عني!»، ثم في الحركة الأخيرة يسود السلام والسكينة، حيث لا مكان لنيتشه ولا لصوته، بل أصوات أثيرية: آلة القيثارة، السَّليستة، والفيبرافون، على خلفية من الأوركسترا الخافتة. هنا يدخل المؤلف السكينة في ملكوت الله، ويُدخل معه نيتشه الرافض للسكينة والملكوت!