خمس وأربعون سنة من اللطم والبكاء
تمر علينا الذكرى الخامسة والأربعون لهزيمة 5 يونيو 1967 في وقت تعاني فيه شعوبنا مخاضاً عسيراً يبدو أنه سيستمر سنوات، فمنذ تلك "النكسة" توالت الهزائم كالسهام في الأرواح المكسورة، لم تكن هزيمة 67 مجرد خسارة حرب بل هزيمة ساحقة للنهضة العربية، وفشل ماحق في بناء الإنسان. لاتزال الذاكرة العربية تنزف ألماً من جرحها العميق الذي لا يندمل رغم مرور السنين، فقد شكلت تلك المرحلة بالنسبة للجماهير العربية نهاية حلم دغدغت به السلطة الأبوية والزعامة الموهومة وجدان الشارع العربي، لتصحو على كذبة كبرى وحقيقة مرة، وهي أن الأنظمة هزمت شعوبها بدلاً من العدوان الإسرائيلي، ومنذ ذلك التاريخ والشعوب العربية لا تتقن سوى ثقافة اللطم والبكائيات. ترتبط أحداث هزيمة 67 بالإعلام العربي الكاذب الذي عمل على تضخيم قدرات القوات العسكرية المصرية، كمقالات هيكل الذي كان يكتب وجهة نظر عبدالناصر (القريب منه) فعمل عبر مقالاته على تشكيل الرأي العام بضرورة الحرب وتضليله بحتمية الانتصار. أما أحمد سعيد فقد كان يأتي صوته الجهوري الحماسي عبر إذاعة صوت العرب مطمئناً الجماهير المهللة بأن النصر قريب، وأن القوات المصرية على وشك أن تلقي باليهود في البحر، مبشراً بإسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية كالذباب، لتعلن جريدة الأخبار في مانشيتها العريض "قواتنا تتوغل داخل إسرائيل... أسقطنا 86 طائرة للعدو"، لتكتشف الجماهير العربية أن العكس هو الصحيح، فقد دمرت الطائرات الإسرائيلية السلاح الجوي المصري ومئات من الطائرات وهي على الأرض. كانت الخسارة فادحة وكارثية دفعت الشعوب ثمنها باهظاً جداً، كان ضحيتها أكثر من 25 ألف قتيل وجريح وأسير، وشعوب منهكة مطحونة دفعت ثمن رخائها بالسلاح والدبابات والطائرات التي دمرت في لحظات، (وتكبدت تكاليف معركة 1973، التي أرجعت ثلث مساحة مصر بعد سنوات من استنزاف أرضها)، واحتلت الجولان وجزءاً من الأراضي اللبنانية، وسقط ما تبقى من فلسطين بعد نكبة 1948 وضاع القدس، وتحول حلم تحرير فلسطين إلى حلم العودة إلى ما قبل حرب 67... لتعود المجتمعات العربية القهقري اقتصادياً وسياسياً وحضارياً... ويصبح اللحاق بركب الدول المتسارعة نحو الحداثة ضرباً من الخيال، لأن الشعوب لم تقم بمسؤوليتها في تقييم تلك المرحلة، ولم تحاسب ولم تبدل حكامها الذين جثموا وخلفاءهم ومن ورثوهم على صدور الشعوب المغيبة المخدرة التي عملت الأنظمة على تجهيلها وطحنها وسحقها، لتستغل تيارات الإسلام السياسي الهزيمة برفع شعار "الإسلام هو الحل"، فازدهرت الفاشية الدينية الطقوسية التي لم تعالج انحلال الأخلاق. ولاتزال دول "الممانعة" الوهمية الفاقدة للشرعية كسورية (التي لم تطلق رصاصة واحدة لتحرير الجولان) توظف شعار تلك الحقبة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" في سلوكها الوحشي والبهيمي في الترويع والقتل وارتكاب الجرائم والمجازر الجماعية للأطفال. هي هزيمة حضارية ونهضوية لانزال نتجرع مرارتها، بينما لايزال الكثير يتوق لعودة شعارات القومية النرجسية التي صنعت بالشعارات والأوهام، ولايزال الكثير يتغنى بأغاني النكسة، ويحلف كما حلف عبدالحليم "بسماها وبترابها ما تغيب الشمس العربية طول ما أنا عايش فوق الدنيا"... هكذا نحن نطرب للأغاني وننتشي للأوهام المتوارثة للعزة والكرامة والشموخ التي تحولت إلى الإهانة والإذلال والانكسار والفساد والطائفية والحكم الأبوي الأبدي، وسيطرة مفاهيم أمن الدولة على قيم الأمن الإنساني... فلا ديمقراطية ولا مؤسسات ولا قانون ولا حريات ولا عيش كريم ولا كرامة إنسانية. انحصار الخيار في الانتخابات المصرية بين الدولة الدينية والعسكرية يدل على أن شعوبنا تعيد إنتاج الطغيان لأنه جزء من تركيبتها الثقافية، لأنها لا تؤمن بالحرية الفردية، وهي شرط لتحقيق التحول للديمقراطية... هو طريق طويل ووعر مليء بالدموع والآلام، ولانزال في أوله. وسنظل نردد حتى ذلك الحين ما كتبه نزار قباني في قصيدته هوامش على دفتر النكسة: "خلاصةُ القضية... توجزُ في عبارة... لقد لبسنا قشرةَ الحضارة... والروحُ جاهلية".