أبواب
كم من أبواب طرقناها أو مررنا بها في حياتنا. وكم من أبواب فُتحت لنا وكم أغلقت في وجوهنا! أما رموز الأبواب في الثقافة الإنسانية فحدث ولا حرج. منها المعنوي كباب النجاح، وباب التوبة، والباب العالي، وباب الفرج، وباب الرزق، وباب الله، وأبواب الجنة والجحيم، بكل ما تستدعيه هذه الأبواب في ذهن المتلقي من مخزون ثقافي ومعرفي. ومنها المادي كباب البيت، وباب المكتب، وباب (بوخوخة)، وباب الكعبة، وباب السجن، وبوابة (البريعصي)، وبوابة (المقصب)، وباب زويلة... إلخ. ومنها ما يقع في دائرة المصطلح كتقسيم مواد الكتاب إلى أبواب، كل باب يحمل عنواناً دالاً على محتواه.
والباب اختراع إنساني محض، وجد منذ أن أدرك الإنسان قيمة الخصوصية وحرمتها وما يوفره الباب من أمان وطمأنينة وعزلة مرغوبة. ثم جاء من بعده اختراع الأقفال والمفاتيح لضمان المزيد من الأمان والحفظ للنفس والمتعلقات الشخصية. وكما كان الباب مصدراً للأمان، كان أيضاً مصدراً للخوف والعذاب والسجن وحائلاً أعظم أمام الحرية. ويظل الباب رغم منافعه المتناقضة مرآة عاكسة للخيال الفني والمهارة اليدوية. يظهر ذلك في تصميمه أو نحته أو زخرفته أو تطعيمه بالمعادن والزجاج، وتزيينه بالمقابض والمطارق حسب مهارة الصانع وذوق العصر الذي يُنجز فيه. ومن هنا كان حال الأبواب والبوابات كحال المعمار معبراً عن التاريخ والمرحلة ومزاج العصر. والباب بمعانيه الثرية والملتبسة يظل موضوعاً للأحلام والتأمل والفن التشكيلي والغناء والشعر. فكم من أبواب تظهر لنا في أحلامنا تصنعها الأضغاث والذكريات ويتفنن فيها العقل الباطن، أبواب تفتح وتغلق على الظلمة أو الغيم أو حافة جبل أو تطير في الريح أو تتحطم تحت الأقدام. وكم من باب في الحي أو لجيران أو لبيت تعرفه يأخذك في رحلة تأمل، فتتعجب كم يشبه الباب أصحابه في بهائه أو عتمته، في انغلاقه على الأسرار والخفايا أو في انفراجه على المباهج الوسيعة، في تباهيه بالذوق والفن أو انكفائه على ما هو تيسر من خشب أو حديد معجون ببقايا كآبات متلكئة. وكم لوحة تشكيلية تبهرك بما توحيه في مشاهد الأبواب من هجران أو وحشة أو قِدَم وبِلى، أو تريك كيف يغفو الباب في ظل شجرة مزهرة، أو كيف ينتظر ذلك الانتظار المبهم، أو كيف يشرع نفسه على الريح والبحر. أما الغناء فيكفي أن تنصت لفيروز وهي ترسم لك رؤاها عن الأبواب بتلك الموسيقى المبتهلة بالحنين والعذوبة والشجن: (أبواب أبواب... شي غُرْب شي صحاب... شيي مسكّر وناطر دا يرجعوا الغيّاب آه يا باب محفور عمري فيك... راح أنطر واسميك باب العذاب في باب غرقان بريحة الياسمين... في باب مشتاق... في باب حزين... في باب مهجور أهله منسيين هالأرض كلها بيوت، يارب خليها مزينة بأبواب... ولا يحزن ولا بيت... ولا يتسكّر باب). أما الشعر فأكتفي بهذه المقطوعة التي كتبتها ذات تأمل في الأبواب التي أمعنت الآن بالغياب: أبوابٌ تستطيلُ متثائبة/ فيطقطق خشبها/ وتمتدّ أذرعتها نحو الفراغ/ كمستيقظ من كسلٍ صباحي أبوابٌ لا أغصان لها/ سوى الافتة الموسومة بحرف (د.)/ المعقوف كذراعٍ خاوية أبوابٌ مغلقة/ وأخرى مواربة/ وثالثة مشرعة كمفازة! وجميعُها أضاعتْ فطرة الشجر!!