قبل أن تختتم الدورة الثامنة والعشرون لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط أعمالها بيومين، بدأت أعمال الدورة الأولى لمهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية، وفي شهري أكتوبر ونوفمبر تنطلق مهرجانات القاهرة ودبي وأبو ظبي والغردقة للسينما الآسيوية، وتتداخل بعضها مع البعض بشكل عجيب إنما يعكس «عمق» العلاقات بين أبناء الأمة العربية، وحجم «التنسيق» و{التفاهم» الذي يربط بينهم!

Ad

المثير للدهشة أن دعوات انطلقت واجتماعات عُقدت لوضع حد لهذا التضارب، الذي انقلب إلى فوضى عارمة، أملاً في الاتفاق بين مديري المهرجانات السينمائية العربية على «أجندة» ثابتة تُحدد بشكل قاطع وحاسم موعد كل مهرجان، فيُعقد في توقيت مختلف من أشهر العام الاثني عشر، لكن اجتماعات «الفصل بين القوات» (المهرجانات) انتهت إلى فشل ذريع إما لأن بعض المديرين لم يأبه بالأزمة ولم يحضر الاجتماعات، أو لأن كثيرين منهم تشبثوا بإصرار غير مبرر بالموعد السنوي المُعتاد!

عندما نصف ما صدر منهم بأنه «إصرار غير مبرر» فهذا يرجع إلى أن هذه المهرجانات كلها، باستثناء مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ليست مُدرجة ضمن قائمة المهرجانات المُعترف بها من الاتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام، وعددها 12 مهرجاناً فقط، بينما تحمل بقية المهرجانات صفة «الدولية» لأنها تنجح في «تجميع أكثر من دولة في دوراتها»، وعلى رغم هذا تأخذها الغطرسة، والعزة بالإثم، وترفض أن تتزحزح قيد أنملة عن موعدها السنوي، بحجة أنها تحافظ على مصداقيتها، وتحرص على ألا تخذل ضيوفها!

هذه المهرجانات،التي فاق عددها منظمات الإغاثة أو نوادي «الروتاري»، إلى من تتوجه؟ وما الغرض من إقامتها؟

الواقع أن أكثرها «سياحي» وبعضها «سياسي» أو «دعائي» والنادر منها «سينمائي»، والمفارقة أن المهرجانات «السياحية» و{الدعائية» منها هي الأكبر والأضخم في الموازنة، لأنها تتبنى أهدافاً محددة غالباً ما تصب في خانة الترويج لأنظمة بعينها أو تمارس ما يمكن الاصطلاح على تسميته «عمليات غسيل المخ»، ومن ثم لا تبخل عليها الدولة بالمال كما توفر لها الإمكانات التي تساعدها على تنفيذ «رسالتها» بينما تعاني المهرجانات ذات الصبغة السينمائية الخالصة من مشاكل وأزمات كثيرة بسبب ضعف الموازنة، وكراهية أجهزة الدولة لها، بحجة أنها تهدر أموالاً كان يُفترض أن تذهب إلى «الفقراء و{الغلابة»، وتؤدي دوراً ترفيهياً في وقت لا ينبغي فيه أن «يعلو صوت على صوت التقشف»!

يستطيع أي فطن أو «لبيب بالإشارة يفهم» أن يُدرك حقيقة توجه مهرجاناتنا السينمائية، ويقيس مدى اهتمام الدولة بها، حسب مكانة وقيمة الشخصيات التي يوفدها «النظام» لحضور حفلات الافتتاح، فإذا حرص مندوب عن رئيس الوزراء على الحضور، فاعلم أن الدولة تضع هذا المهرجان في مرتبة متقدمة، وربما تنظر إليه بوصفه إحدى أذرع الدولة العميقة، أو جهاز من أجهزتها السيادية (!)

أما في حال حضور وزير الثقافة فإن هذا يعني أن الدولة تراه نشاطاً ثقافياً يُمكن توظيفه في ظرف تاريخي بعينه، وحتى يأتي هذا الظرف فلا مانع من إيفاد «الوزير»، لكنها تترك له حرية الحضور من عدمه، وغالباً ما يفضل الوزير الحضور حسب مزاجه الشخصي أو قابليته للوجوه التي تُدير المهرجان، ورغبته في مجاملتها، وهناك سبب آخر يتعلق بحاجته كوزير إلى توصيل رسالة ما في توقيت بعينه!

الاكتفاء بحضور «المحافظ» أو «الوالي» يعني أن الدولة تتبنى موقفاً متحفظاً من هذا المهرجان، وتود لو أصدرت قراراً بإلغائه لولا خشيتها من غضب السينمائيين وانقلاب المثقفين، ومن ثم تضع العراقيل في وجه القيمين عليه أملاً في أن يُصيبهم اليأس، ويُقدموا على خطوة إلغاء المهرجان عملاً بشعار «بيدي لا بيد عمرو»!

تحدثنا في عجالة عن الغرض من إقامة المهرجانات السينمائية العربية، لكن المزعج في الأمر أنها تبدأ وتنتهي من دون أن تضع في اعتبارها الجمهور الذي تأسست لأجله، ويُفترض أن لديها رسالة تريد توصيلها إليه، ففي واقعنا العربي تُصنع المهرجانات لأجل أن يجتمع القيمون عليها مع أصدقائهم والمقربين، الذين فرقتهم الظروف أو قتلتهم الغربة في بلاد المهجر، وتدريجاً تتحول المهرجانات إلى «مقاهي النخبة»، وإذا ما كان المهرجان يقع في مدينة ساحلية فإنه يتحول إلى «مصيف الصفوة»!

في كل الأحوال يغيب الجمهور «بفعل فاعل»، ونادراً ما يجد له مكاناً وسط هذه الصحبة من الأحباب ورفاق العمر، وسرعان ما يتحول أهل المدينة إلى غرباء يتسولون بطاقة دخول أو نظرة عطف متواضعة من نجم قتله الغرور!