شهدت الولايات المتحدة عام 2008 حدثاً مفصلياً، وهو انتخاب باراك حسين أوباما أول رئيس للولايات المتحدة يتحدر من أصول إفريقية. فوالده باراك حسين أوباما كيني، ولا يزال باراك أوباما الابن يملك عائلة كبيرة في كينيا. خلال الحملة الانتخابية التي سبقت هذا الفوز التاريخي، تسلطت الأضواء على أصول أوباما الإفريقية. فتقاطر المراسلون إلى كينيا للتعرف إلى أفراد هذه العائلة وإجراء المقابلات معها. فما كان من أخت أوباما غير الشقيقة، أوما أوباما، إلا أن تتطوع لتحمي جدتها سارة من معمعة هذا الهوس الصحافي.

Ad

التقت أوما أخاها باراك للمرة الأولى في ثمانينيات القرن الماضي. وجمعتهما منذ ذلك الحين علاقة وطيدة. فقاما بأسفار عدة إلى كينيا. كذلك بحثا معاً في تاريخ العائلة. حتى إن أوما قدمت الدعم الكامل لأخيها خلال حملته الانتخابية. ويؤكد باراك أنه أحب اخته من اللحظة الأولى التي احتضنها فيها.

أمضت أوما ست عشرة سنة من حياتها في ألمانيا، حيث تابعت دروسها. وانتقلت بعد ذلك إلى إنكلترا، حيث رزقت بابنة، لتعود أخيراً إلى كيني لتعمل على مساعدة الشبان والشابات الكينيين على شق طريقهم في الحياة. عانت أوما الكثير نتيجة تضارب عادات المجتمع الكيني التقليدي مع العالم الذي أمضت فيه جزءاً كبيراً من حياتها. فقد ثارت على التقليد والعادات منذ نعومة أظفارها.

 قررت أوما تدوين معاناته هذه والفترات التي قضتها مع أخيها في كتاب، هكذا أبصرت مذكراتها النور. تحمل هذه المذكرات العنوان AND THEN LIFE HAPPENS، وإليكم مقتطفاً منها.

  كينيا

1

«يا إلهي! يا إلهي! لا أصدق!».

قرأت مساعدتي لوسي الرسالة التي كانت تحمل في يدها للمرة الثانية. أقلقني وصول هذه الرسالة غير المتوقع، فشعرت بضرورة أن أريها لشخص ما.

وقفت إلى جانب لوسي، وأدركت من العلامات التي ارتسمت على وجهها أنها ترغب بشدة في إعادة قراءة الرسالة بصوت عالٍ. لذلك سارعت إلى الطلب منها عدم فعل ذلك. فلم أرغب في أن يعرف كل مَن في المكتب محتوى الرسالة أو، أسوأ أيضاً، مرسلها. اتلقى في الآونة الأخيرة الكثير من الانتباه لأن أخي باراك أصبح، على رغم الظروف المعاكسة كافة، أول رئيس للولايات المتحدة الأميركية يتحدر من أصول إفريقية. في ليلة وضحاها، وجدت نفسي، بما أنني أحد أفراد عائلته في أفريقيا، محط الأنظار. يبدو اليوم أن لوسي الرصينة والمتزنة وقعت في دوامة الحماسة والإثارة التي أشعلها هذا الحدث.

صاحت: «يجب أن تضعي هذه الرسالة في إطار، هذا ضروري». رحت أضحك وانتزعت الرسالة من بين يديها. فأضافت بحماسة: «حقاً أوما! تخيلي كم ستصبح قيِّمة في غضون سنوات قليلة؟». فلم أستطع منع نفسي من الضحك عالياً. واصطنعت توبيخها قائلة: «أيتها الكيكويو!».

يشتهر الكيكويو، أكبر مجموعة إثنية في كينيا، بمهاراتهم التجارية. فعلت ثغرها ابتسامة عريضة. صحيح أنها من الكامبا، مجموعة إثنية أخرى، إلا أنها متزوجة من كيكايو. هزت لوسي كتفيها ثم ابتسمت ابتسامة ماكرة، ثم اردفت: «لا بد من أنني التقطت العدوى».

لاحظت أن زملاءنا ينظرون إلينا بفضول متنامٍ. فتابعت الكلام بصوت منخفض، محاولة إعادة نفسي ولوسي إلى أرض الواقع: «ألا تظنين أن من المنطقي أن أرد على هذه الرسالة بدل أن أحتفظ بها كقطعة أثرية في متحف؟». خلال دردشتنا الصغيرة هذه كان سؤال آخر يدور في ذهني: كيف عساني أن أرد على رسالة من هيلاري رودهام كلينتون؟

قبل بضع لحظات، أحضر إلي هذه الرسالة شخصياً أحد موظفي السفارة الأميركية. كنت قد تلقيت قبل ذلك اتصالاً في مكتبي من المؤسسة الخيرية الدولية «تعاونية المساعدة والإغاثة في كل مكان» (كير) للتأكد من أنني سأكون في مكان عملي لتسلم الرسالة. فتبنيت في الحال موقفاً دفاعياً، مع أنني لم أكن قد اطلعت بعد على سبب الاتصال. فقد ظننت أنه طلب آخر من الطلبات الكثيرة التي تلقيتها لإجراء مقابلات. ونتيجة الكم الهائل من الاتصالات، صرت أشعر كما لو أنني حيوان محاصر يحاول الاختباء من الصحافيين. صحيح أنني تلقيت غالباً هذه الطلبات على هاتفي الخليوي الخاص، بما أن قليلين يعرفون رقم هاتف مكتبي، إلا أن هذا الواقع تناهى عني في تلك اللحظات.

مع بلوغ انتخابات عام 2008 ذروتها، تعمدت إعطاء رقم هاتفي الخليوي لكل مَن يسأل كي يتصل بكل مَن يودون الحصول على معلومات عن عائلة أوباما. ظننت أن بإمكاني التعامل بسهولة مع وسائل الإعلام. فقد عملت كصحافية خلال إقامتي في ألمانيا، وفكرت أنني إذا أعطيت الصحافيين رقمي، فأنا بذلك أحمي جدتي، التي يدعوها الجميع ماما ساره، من فضول وسائل الإعلام وتطفلهم. إلا أنني لم أتوقع هذا الفيض من الاتصالات.

بما أن ماما ساره جدة باراك، رغب الجميع في التحدث إليها. أرادوا أن تخبرهم عن عائلته وأن تزودهم بالقطع الناقصة لحل الأحجية التي مثلها باراك أوباما في نظرهم. فمَن هو هذا الرجل الأسود، ابن الرجل الأفريقي الذي يطمح إلى أن يكون رئيس أقوى دولة في العالم؟ ما هي جذوره؟ ومن أي عائلة يتحدر؟

بحثاً عن أجوبة عن هذه الأسئلة، استقلت وفود المراسلين من مختلف أنحاء العالم الطائرات وتوجهوا إلى نيروبي، العاصمة الكينية. ومنها انطلقوا عابرين ريف غرب كينيا إلى أليغو نيانغوما كوغيلو، قرية صغيرة متواضعة تقع قرب ضفاف بحيرة فيكتوريا، التي كانت موطن أجدادنا. في هذه القرية، تحتضن أراضي عائلة أوباما رفات باراك حسين أوباما الأب (1936-1982) وأنيانغو حسين أوباما (1879-1975) والد وجد الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأميركية. ولا تزال حتى اليوم مسكن جدتنا ماما ساره.

في الكثير من المناسبات وقفت إلى جانب جدتي خلال المقابلات التي أجريت معها. وقد ذهلت في كل مرة وفرحت لقدرة هذه المرأة ذات السبعة والثمانين ربيعاً على فهم تعقيدات وتفاصيل العملية الانتخابية الأميركية. فأجابت عن الأسئلة كافة بذكاء ودعابة، مكتفية بالقليل المفيد ومتفادية الاستفاضة في الشرح غير الضروري. على رغم ذلك، لطالما أردت ألا أحملها عبئاً كبيراً بسبب سنها، وحاولت أن أبقي اهتمام الإعلام بنا مضبوطاً.

حملت رسالة هيلاري كلينتون معي طوال أيام لأنني اعتقدت أن علي التفكير ملياً في الرد المناسب. فلم يكن يعتمل في داخلي فيض من المشاعر المختلفة فحسب (غمرتني السعادة لأن أخي فاز، إلا أني لم أكن مستعدة للاهتمام المتواصل الذي لقيته بصفتي فرداً من عائلة أوباما)، بل أعادت رسالة وزيرة الخارجية الأميركية إلى ذهني ذكريات أليمة. فخلال المرحلة الأولى من الانتخابات، نافست أخي على ترشيح حزبهما. صحيح أنهما كليهما ديمقراطيان، إلا أنهما كانا خصمين شرسين. وما كنت قد نسيت بعد الهجمات القوية التي شنها معسكر هيلاري على أخي. وبما أني لست معتادة قواعد الحملات السياسية، شعرت آنذاك أن هذه الهجمات استهدفت أخي شخصياً. وخشي ألا يكون هدف فريق الخصم الفوز في الانتخابات فحسب، بل تدمير مسيرة أخي السياسية أيضاً. ها أنا اليوم أقرأ رسالة من هيلاري كلينتون تشكرني فيها على الأوقات الجميلة التي تشاطرناها في واشنطن وتتمنى لي كل خير. لم أستطع أن أصدق عينيّ.

2

لم أفهم مطلقاً خلال نشأتي لم مُنعت من القيام بأمور كثير لأني فتاة فحسب، في حين أن أخي أبونغو، الذي يكبرني بسنتين، حظي بحرية أكبر وشعر أنه من حقه التأمّر علي.

قاومت هذا الوضع بكل ما أوتيت من قوة. وبما أني كنت فتاة وحيدة وعنيدة في عائلة إفريقية تعيش في مجتمع ذكوري (كل إخوتي شباب)، ما كان أمامي من خيار غير النضال لأثبت مكانتي. وفي مناسبات عدة، كانت الكتب ملجأي، إذ أتاحت لي أن أنسى نفسي وأهيم في حياة أشخاص آخرين.

عشقت القصص التي تدور حول التعاطف، تغلب الآلام والأحزان، والعواطف الجياشة. فلم تلائم هذه طبعي فحسب، بل أتاح لي محتواها الآسر أن أنسى واقعي. خلال دراستي الثانوية في نيروبي، تعرفت إلى الأدب الألماني لحقبة ما بعد الحرب، وسرعان ما أدمنته. كنت في السادسة عشرة من عمري آنذاك. وعلى غرار معظم المراهقات، كنت حادة الطبع، وأبحث عن ذاتي وأحاول إثبات هويتي.

قرأت الكتب أولاً بالإنكليزية ثم بالألمانية. فرحت ألتهم أعمال برتولد بريخت، هاينرخ بول، غونتر غراس، وفولفغانغ بورشرت. كذلك، عشقت كريستا فولف. كان أبطال هؤلاء الكتّاب يتخبطون في دوامة من المشاعر، وقد شاطرتهم تجاربهم تلك. كنت أدفن نفسي طوال ساعات في كتبي. حتى إني كنت أقرأ أحياناً كتابين في الوقت عينه، واحداً قبل النوم ليلاً وآخر خلال النهار.

تعرفت إلى الأدب الألماني واللغة الألمانية صدفة. كانت كينيا في الماضي مستعمرة بريطانية، ولم تنل استقلالها حتى عام 1963. نتيجة لذلك، تُعتبر الإنكليزية اللغة الأوروبية الرسمية لبلدنا، إلى جانب السواحلية، لغة محلية في شرق أفريقيا. لم تلقَ اللغة الألمانية رواجاً كبيراً في كينيا في تلك الحقبة. إلا أن مدرستي الثانوية عرضت على طلابها عام 1976 صفوفاً لتعلم هذه اللغة. لم نكن معتادين على تعلم لغات أجنبية، فضلاً عن أن التلامذة لم يعرفوا ما الفائدة منها. فحتى ذلك الحين، كانت الفرنسية اللغة الأجنبية الوحيدة التي عُرض على التلامذة تعلمها. وبما أننا كنا نرزح تحت الكثير من الواجبات المدرسية، لم يلتحق بهذا الصف سوى عدد صغير من التلامذة، وكنت واحدة منهم. كانت هذه أولى الخطوات التي دفعتني لاحقاً إلى اتخاذ القرار بالسفر إلى ألمانيا ومتابعة علومي في أرض أبطال رواياتي.

لكن قبل الالتجاء إلى الأدب الألماني بوقت طويل، كنت أشكك في أمور كثيرة وأبحث عن السبيل إلى التحرر من قيود التقاليد. تنتمي عائلتي إلى شعب اللوو، الذي يعتبر أن الرجل هو القاضي والحكم بلا منازع.

يتألف شعب اللوو من أكثر من 40 مجموعة إثنية تعيش في كينيا. يُعتبر اللوو من شعوب غرب النيل التي هاجرت قبل قرون من السودان من ضفاف النيل الأبيض إلى أوغندا ومنها إلى كينيا، فاستقرت قرب بحيرة فيكتوريا. وتمتد اليوم المنطقة الناطقة باللوو من جنوب السودان إلى إثيوبيا (أنواك) فشمال أوغندا وشرق الكونغو (جمهورية الكونغو الديمقراطية)، فضلاً عن غرب كينيا وصولاً إلى شمال تنزانيا. في كينيا، يُعتبر اللوو ثالث أكبر مجموعة إثنية بعد الكيكويو واللوهيا، ويُقال إن نحو 4 ملايين نسمة ينطقون بها.

كنت الفتاة الوحيدة في عائلتنا المصغرة. ومع أن حياتنا في المدينة اتخذت طابعاً عصرياً، اختبرت مع جديّ في الريف، حيث تتحول الحياة إلى تقليدية، التفرقة بين الصبيان والفتيات. فكانت النساء والفتيات منهمكات دوماً بمختلف النشاطات المنزلية والأسرية (أو هذا ما بدا لي على الأقل)، في حين أن الرجال لم يحركوا ساكناً في المنزل، وقلما عملوا في المزرعة.

أتذكر أن جدي أونيانغو كان يتبع دوماً عادات اللوو متناولاً الطعام مع الرجال والصبية، في حين كانت النساء والفتيات يأكلن طعامهن بمفردهن في المطبخ. اعتدنا نحن النساء (مع بعض القريبات والعمات) أن نعد الطعام ونقدمه، وننظف المنزل ونغسل الصحون، في حين أن الرجال والصبية يمضون يومهم بالاسترخاء. استأت كثيراً عندما أدركت أن توزيع الواجبات هذا يروق أخي الأكبر. لكن ما أثار حفيظتي حقاً ملاحظتي أن معظم النساء والفتيات لا يمانعن بذل قصارى جهدهن لخدمة الذكور في العائلة. لذلك قاومت بشراسة ما اعتبرته تمييزاً بين الجنسين وحاولت ألا أخضع له، مع أن نجاحي ظل محدوداً. فكان علي الالتزام بقواعد الأسرة.

عندما تعمقت بعد سنوات في عادات اللوو، تبين لي أن أدوار الرجال والنساء في مجموعتنا الإثنية مختلفة بالتأكيد إنما متوازنة. فتشمل مهمات رجال العائلة الأساسية تربية المواشي (يرعون القطعان عادة)، بعد الأعمال التي تتطلب جهداً جسدياً كبيراً في المزرعة، صيد الأسماك، بناء الأكواخ، وإنتاج عدد من الأشياء. مثلاً، يصنعون الآلات الموسيقية، يقومون بأعمال الحدادة والنجارة، ينسجون السلال، ويخيطون شباك الصيد. ومن مهامهم أيضاً المداواة بالأعشاب وحماية المجتمع في أوقات الحرب. أما النساء والفتيات فمسؤولات عن المنزل. يملأن جرار الماء، يطلين جدران المنازل بالجص، يصنعن الأواني الفخارية، وعلى غرار الرجال، يحكن السلال. كذلك، تشمل مسؤولياتهن حراثة الأرض، حصد المحاصيل، وتخزين الحبوب. ومن بين الحيوانات، يعتنين بالماعز والخراف والعجول. كذلك يتعلمن رعاية القطعان ليعتنين بها حين يذهب الرجال إلى الحرب. ولا داعي لذكر أنهن يضطلعن أيضاً بمهمة الاعتناء بالأولاد وتربيتهم.

وبإتقان هذه المهام، يتحضر الصبية والفتيات لحياتهم المستقبلية كأزواج وزوجات. يتعلم الأولاد منذ نعومة أظفارهم الطاعة والإحساس بالمسؤولية والاحترام. قلما يتمرد أحد على عاداتنا هذه. وبتناقلها يضمن اللوو استمرارهم الاقتصادي والاجتماعي كشعب.

لكن هذه الهيكلية التي ظلت قائمة طوال قرون انهارت مع وصول الاستعمار إلى كينيا. فقد فرض الحكام المستعمرون ما دعي بالضريبة على الأكواخ. هكذا في ليلة وضحاها بات سكان أفريقيا الأصليون مضطرين إلى دفع المال كضريبة على أكواخهم. نتيجة لذلك، صارو مرغمين على العمل في مزارع البيض لأن التخلف عن دفع الضريبة اعتبر ضرباً يستأهل العقاب أو حتى السجن. وبما أن الرجال ما كانوا قادرين على جني المال إلا من البيض، أجبروا على ترك أراضيهم والبحث عن عمل يتقاضون مقابله اجراً في المناطق الكينية التي سكنها البيض.

إذاً، صار الرجال يعملون لدى المستعمرين، ما دفع بالنساء والفتيات اللواتي بقين في المنزل إلى القيام بواجبات الرجال أيضاً. وما كان الرجال يعودون إلى المنزل، إلا لتمضية بضع عطل تدوم كل منها أياماً قليلة. خلال هذه العطل، لم يتسنَّ لهم الوقت الكافي للمشاركة فعلياً في أعمال المزرعة. نتيجة لذلك، لم يقوموا بأعمال كبرى، بل اكتفوا بترك زوجاتهم وبناتهم في خدمتهم إلى أن يحين مجدداً موعد العودة إلى المدن أو مزارع البيض.

هكذا باتت أعمال المزرعة كافة من مسؤولية النساء. كذلك صارت قدرة المرأة على العمل في الحقول والقيام بالمهام الضرورية في المزرعة ذات قيمة كبيرة عند اختيار العروس. إلا أن هذا التبدل في مسؤولياتها لم يبدل مركزها في التراتبية الأسرية.

لم أفهم حين كنت في الثامنة من عمري هذه التطورات. صحيح أن مجتمعنا التقليدي تبدل بفعل ضغط خارجي كبير أثر أيضاً في طريقة تربية الصبيان والفتيات وتحضيرهم لسن البلوغ والانقسام التقليدي بين أدوارهم، إلا أن عائلات اللوو حافظت على مبادئها في تربية الأولاد. لكنها لم تشكك بما إذا كانت هذه المبادئ تتلاءم مع التغييرات التي طرأت على حياتها. وكان من المتوقع مني أنا أيضاً الخضوع طوعاً لهذه القيم القديمة.

من المؤسف ألا أحد حاول أن يوضح لتلك الفتاة الصغيرة الفضولية التي كنتها الإطار العام لهذه العادات وخلفيتها. استمتعت جدتي ساره بأسئلتي الدائمة، وكانت تكتفي بهز رأسها حين كنت ألحّ بعناد. وكانت تمازحني أحياناً، مهددة إياي بتزويجي لجار مسن تجاوز الخمسين منذ سنين، إن لم أكفّ عن التشكيك بكل ما يدور من حولي. وتؤكد لي وهي تضحك أنها ستحظى بالتأكيد ببضع بقرات سمينة مقابل هذه الصفقة.

لا رأي للمرأة في الزواج، ولا تتدخل في أي من مفاوضاته. ولكن في معظم الحالات، يختفي قلق العروسين ومخاوفهما بسرعة. فلا يتوقع أفراد هذا الشعب أن يكون للزواج أي دخل بالحب.

وبهذه الطريقة تزوجت جدتي جدي عندما كانت في التاسعة عشرة من عمرها وهو قد قارب الخمسين. ولكن حين سألتها عن شعورها عندما اضطرت إلى الزواج من رجل يكبرها سناً بكثير، كان جوابها بسيطاً، قالت إن هذا الواقع لم يزعجها البتة. فكان جدي رجلاً محترماً وميسوراً, وكان من المهم في رأي جدتي أن تعتبره عائلتها «زوجاً مناسباً». وهذا كان كافياً بالنسبة إليها لتدرك أنه الزوج الأفضل لها.

أثارت إجابتها هذه غضبي، فقلت لها: «لكنه كان مسناً. هل أحببته؟». لم أستطع تقبل هذه الأسباب التي قدمتها لي والتي دفعتها إلى القبول بجدي. فمع أنني كنت في الثامنة من عمري، فكرت في أن عجزي عن اختيار زوجي المستقبلي بنفسي أمر غير مقبول مطلقاً.

حلمٌ وأوهام

لم أستطع مطلقاً تقبل طريقة الزواج في مجتمعنا: كيف يعقل أن يتزوج رجل امرأة من دون موافقتها ويكتفي بالاتفاق مع أهلها أو حتى والدها؟ ولّد هذا الاحتمال بلبلة نفسية في داخلي، حتى إنني حلمت غالباً برجل مسن (أكبر بكثير من جار جدتي) يرغمني على الزواج به. كان يختبئ في الحلم في الغابة ويسارع إلى إمساكي وأنا في طريقي إلى المزرعة بعد أن أكون قد ملأت الجرة ماء من النهر. لا يسمعني أحد وأنا أصرخ طلباً للنجدة، فيما يحاول هذا الرجل المسن جري إلى منزله. لكني في النهاية أتمكن من الإفلات منه والفرار. ولكن عندما أعود إلى أهلي، أكتشف أنه أعطاهم بضع بقرات كمهر لأكون عروسه. هكذا أكون قد تزوجت من دون أن يسألني أحد رأيي أو يعلمني بما يحدث. قضّ هذا الكابوس مضجعي لليالٍ طوال. وكلما أيقظني، كنت أقبع في سريري لساعات وأنا أتصبب عرقاً بعد أن يجافي النوم عيني.

لا يعدّ الزواج في عادات شعب اللوو عموماً مأساوياً بقدر ما تصوره أوهامي الليلية. صحيح أنهم يعتبرونه (كالموت) أحد أهم النقاط المفصلية في حياة المرء (ينطبق هذا الواقع على النساء كما الرجال)، إلا أنه بات أخيراً مجرد عقد بين عائلتين.

دردشة مع هيلاري

خلال حفلة الغداء التي أقيمت بمناسبة تسلم أخي سدة الرئاسة، جلست إلى طاولة واحدة مع هيلاري وبيل كلينتون وعدد من كبار رجال السياسة الأميركيين. أثناء تناول الطعام، دار الحديث حول أداء باراك القسم والسياسة العالمية ومساعدات التنمية وكينيا وعملي في «كير». كذلك تلقيت عدداً من النصائح الحكيمة طلب منا إيصالها لي أخي وزوجته ميشال، نصائح تساعدهما على العيش حياة «طبيعية» نسبياً في البيت الأبيض.

صحيح أنني لم أجلس بجوار هيلاري، لكن تسنت لي فرصة التحدث إليها على انفراد لفترة وجيزة. وقد سررت حين اكتشفت أن هذه السيناتورة السابقة من نيويورك محاورة ساحرة، مرحة، ولبقة. استمتعت كثيراً بالتكلم معها، وودت لو أنني أستطيع إطالة دردشتي مع هذه المرأة التي تشع ذكاء وحيوية. عندئذٍ أدركت الأسباب التي جعلت كثيرين يدعمونها خلال حملتها. فعندما التقيتها وجهاً لوجه عرفت لمَ أرادت الناخبات على وجه الخصوص مساعدة هيلاري لتكون أول امرأة تتبوأ سدة الرئاسة في الولايات المتحدة. فهي تنضح بالكثير من «القوة النسائية».

انقطعت دردشتي مع هيلاري، التي جلست فيها القرفصاء بجانبها، عندما حان وقت تناول الحلوى. وبعد أن شعرت بشدّ في عضل فخذي، قررت العودة إلى مقعدي بجانب زوجها، الرئيس الثاني والأربعين للولايات المتحدة الأميركية.

مر نحو شهر قبل أن أجد الكلمات المناسبة للرد على هيلاري. ولم تكن هذه بالمهمة السهلة. أردت، من جهة، أن أبقي فرصي للتعرف إليها بشكل أفضل، ما عنى أن رداً مثل «شكراً لك على رسالتك» لم يكن كافياً. غير أنني أدركت، من جهة أخرى، أن هذه الرسالة كانت على الأرجح مجرد تصرف لبق وجزءًا من اللياقة السياسية، التي لا تحمل في طياتها أي معنى أو هدف آخر. كنت أجهل ما علي القيام به، فما ألفت يوماً هذه الأمور. وبما أن أخي صار محط الأنظار على مسرح السياسة العالمي، لم أستطع منع نفسي من التفكير في أن هذا الاهتمام بي يعود إلى واقع أني «أخت باراك أوباما».