نعى عالم الصحافة قبل بضعة أشهر أحد أبرز الصحافيين الأميركيين المتحدرين من أصل لبناني، أنتوني شديد. خصص شديد جزءاً كبيراً من حياته لنقل أخبار الشرق الأوسط، ونال جوائز عدة للبسالة التي أعرب عنها. غطى حرب العراق وحرب إسرائيل على لبنان، فضلاً عن تطورات الربيع العربي. لكنه خلال سعيه إلى جمع الأخبار عن الجيش الحر في سورية، أصيب بأزمة ربو حادة فارق على إثرها الحياة عن عمر يناهز 43 سنة.

Ad

هاجرت عائلتا شديد وسمارة، اللتان يتحدر منهما أنتوني شديد، من بلدة مرجعيون اللبنانية عشية الحرب العالمية الأولى. لكنهما حملتا في قلبهما الحنين إلى الوطن وترابه. في عام 2006، عاد شديد إلى مرجعيون ليزور منزل جده الأكبر إسبر سمارة، ذلك المنزل الذي شكّل في نظره مرساة شدته إلى أرض أجداده. بعد بضعة أشهر أصيب المنزل بصاروخ إسرائيلي. فقرر شديد شراء شجرة زيتون صغيرة وغرسها قرب المنزل شبه المهدم. كذلك، عقد العزم على إعادة بناء ملجأ العائلة هذا في أرض الوطن. هكذا، اتخذ شديد من عملية إعادة البناء محوراً ليسرد لنا حكاية أسلافه ووطنهم وهجرتهم في كتاب عنونه House of Stone: A Memoir of Home, Family, and a Lost Middle East (منزل من حجر: ذاكرة وطن، عائلة، وشرق أوسط ضائع)، وإليكم مقتطفاً منه.

بيت

تطورت اللغة العربية ببطء على مر ألوف السنين، فلم تترك ما لم تعرّفه ولم تخلف أي معانٍ مخبأة. لكلمة بيت مدلولات كثيرة لا تقتصر على الغرف والجدران، بل تتعداها لتشمل المشاعر المرتبطة بالعائلة والوطن. في الشرق الأوسط، البيت مقدس. تسقط الإمبراطوريات وتنهار الأمم. قد تتبدل الحدود أو يُعاد ترسيمها. قد تنتهي التحالفات القديمة أو تتبدّل فجأة من دون سابق إنذار. وهكذا يكون البيت في النهاية، سواء كان البناء أو الجذور العائلية، الهوية التي لا تضمحل.

في مرجعيون القديمة في ما يُعرف بلبنان اليوم، خلّف إسبر سمارة وراءه منزلاً لم يطلب منا مطلقاً الإقامة فيه أو دخوله. بقي هذا المنزل قابعاً هناك لعلنا احتجنا إلى ملجأ يوماً ما. خلّفه إسبر سمارة لنا، نحن عائلته، ليربطنا بالماضي، ليكون دعامة لنا، ليتحول إلى إطار تدور فيه القصص والحكايات. أود، بعد سنوات من السعي إلى اكتشاف كل تفاصيل مسيرة إسبر، أن أتخيل حياته في المكان حيث تمتد حقول حوران أطول مما يستطيع هذا الحالم، هذا الرجل الغني الذي ولد من شقاء ولد فقير، أن يستوعبه.

في صورة قديمة تناقلتها الأجيال، يبدو إسبر سمارة بكتفيه العريضتين المثقلتين أنه شارف على الشيخوخة، مرحلة لم يعرفها. إلا أن تعابيره احتفظت على رغم ذلك بحنكة قد يعتبرها البعض مفيدة. كان جذاباً أكثر منه وسيماً، قد ترك الهواء والشمس بصمات واضحة على محياه. لكن عينيه تتلونان بأزرق يمني يندر بين الساميين أصحاب العيون البنية في منطقته. صحيح أنه أب لستة أولاد، لكنه لم يولِ منظره أي أهتمام. كان شعره الأصهب على ما يبدو مشعثاً، وقد بدا شارباه أقرب إلى أجمة ممتدة لم تشذب منذ زمن. عزم إسبر على إثبات ذاته مذ كان صبياً صغيراً, وأظن أنه نجح في تحقيق هدفه هذا.

في الفترة التي التُقطت فيها صورة إسبر وعائلته، كان في الأربعين من عمره تقريباً. لكني أشعر بانجذاب أكبر إلى إسبر في مراحل حياته اللاحقة، حين أصبح أباً ما عاد يولي طموحاته الأهمية ذاتها، أب افترق عن أولاده وانطلق إلى أميركا لينقذ حياتهم. أتساءل إن كان قد تخيلهم وتخيّل ذريتهم (أبناء وبنات، أحفاد وحفيدات وهلمّ جرا) وتخيلهم يعيشون حياة كثيرة التقلبات بقدره هو. هل تصور أننا بعد سنوات قد نهيم على وجهنا ونرتقي الدرجات المتشققة لنفتح أبوابه؟

في منزل إسبر، المسافر مرحب به، ما يتناسب مع تقاليد الضيافة البدوية التي ورثها. كانت أشجار الزيتون والنخيل تقف منتظرةً في هذا المنزل بحجارته وقرميده، الذي انتهى بناؤه عقب الحرب العالمية الأولى. ما زال هذا المنزل قائماً في بلدتنا القديمة، حيث أعاقت الحرب غالباً تقدم الزمن. وعلى غرار صورة منعكسة على صفحة المياه، علقت صورته في أذهان عائلتي. نحن عشيرة لم تبلغ موطنها يوماً، مجتمع وثيق العرى هُجرت أجياله السابقة خلال حقبة التخلي عن بلدنا قبل عقود. عندما نفكر بالبيت كأصل ومكان، تتجه أفكارنا إلى منزل إسبر.

يحكي هذا البيت، الذي بُني على تلة، عن شؤون الهلال الخصيب وعن نمط حياة طمح إليه إسبر سمارة. يذكّر بيت إسبر بحقبة من الانفتاح ضاعت قبل سقوط الإمبراطورية العثمانية حين كانت الشعوب تتنقل في أراضٍ تشاطرها الجميع. شُيّد هذا البيت في حي السراي، الذي كان في الماضي راقياً كغيره من أحياء المنطقة, فقد تميز بأبنيته الحجرية وقناطره المستدقة وأسطحه القرميدية الحمراء. استقدم القرميد في مرجعيون من مرسيليا، وعنى ذلك في القرن التاسع عشر علاقات دولية وتتبعاً لآخر ابتكارات البناء في مدن العالم الكبرى. شكّل القرميد يوم ذاك رمزاً لأسلوب الحياة في الهلال الخصيب بقدر الطربوش الذي اعتمره رجال الدولة العثمانية النبلاء الذين أقاموا في الحي، حيث كانت أواني الفضة تُلمَّع دوماً والقهوة تُقدَّم غالباً بعد الظهر. اعتاد المسنون، الذين بانت عليهم علامات الدهر تماماً كالمقاعد الخشبية القديمة، مسح أعينهم المغرورقة بالدمع بمحارم طُرزت عليها أحرف أسمائهم الأولى. حلّ الأبناء مكان الآباء وحملوا أسماء العائلة الثمينة. إلا أن إسبر لم ينل حظوة كبيرة.

باب المدخل

في مكان وزمان بعيدين كل البعد عن ابتكار الذات، صنع إسبر نفسه بنفسه. كانت عائلته الموسعة غير مرموقة، فقد اقتصرت على «أقل من عشرين منزلاً». ومع أن أثاث بيته كان باهظ الثمن ومستورداً من سورية، كان حديثاً حداثة ثروته. لكن منزله لم يبرز بسبب طرازه العصري فحسب. فقد كان مسكناً بُني بعرق وكد تاجر مثابر ما كان يشيح بناظريه عن حساباته إلا للنظر إلى زوجته بهيجة. يشكّل هذا المنزل مذكراً بحقبة ندرت فيها الثقافة وحلّت فيها كارثة لا يقبلها عقل. ويكشف ما يستطيع رجل حسن النوايا وإنما ناقص أن يحقق في الحياة. يظهر ابتكار إسبر هذا ما أحب هذا الرجل وما حفزه، ويذكرنا بأن الأماكن التي نمضي فيها حياتنا اليومية تكشف الكثير عنا بصمت. فقد صنع باب المدخل ذا المصراعين طويلاً وعريضاً ليستقبل رجلاً مثل إسبر لا رجالاً منطوين على ذاتهم.

كان إسبر، الذي أنجبت ابنته رئيفة أبي، جدي الأكبر. كبرت وذكراه تنبض حية في داخلي، ذكراه التي حالت دون اندثارها قصص حولته إلى شخص حقيقي بالنسبة إلي ونقلت عائلتي إلى عالمه، إلى موقع زال عن الخرائط الحديثة: جديدة مرجعيون. بهاتين الكلمتين أشارت عائلتي إلى بلدتنا، إلى موطننا. فلم أسمعهم يوماً يقولون جديدة أو مرجعيون فحسب، بل استخدموا الاسم الكامل دليل احترام لأننا نعتبر هذا المكان البداية. ففي هذا البيت تكوّنا.

كانت مرجعيون حين قطنها أسلافي محوراً يقع عند تقاطع طرق تجارية يعبرها المسيحيون والمسلمون واليهود، طوائف تتداخل معاً وتتشابك لتشكل نسيج الشرق الأوسط القديم. شكّلت مرجعيون في الأساس بوابة إلى صيدا على البحر الأبيض المتوسط، دمشق وراء جبل حرمون، القدس في دولة فلسطين التاريخية، وبعلبك، موقع مدينة رومانية قديمة. نتيجة لذلك، تحوّلت إلى بلدة متعددة الأوجه بقدر ما يسمح الريف. حتى إن رقيها وتطورها انعكسا على مختلف أرجاء المنطقة.

لكن الإقامة في الأماكن الصغيرة ما عادت تصلح لأنها لا تُلائم عالمنا اليوم. نعم، بدأ بريق مرجعيون يخبو، وهذه كانت حالها منذ عقود. صارت مرجعيون اليوم تفتقر إلى ما يجذب الناس إليها، كما كانت أسواق يوم الجمعة التي تقاطر الجميع إليها مرتدين أبهى حللهم. فكانت النساء تلبس ثياباً حيكت في دمشق والرجال النبلاء يحملون ساعات جيب براقة استُقدمت من أميركا. في الليل، تختفي الأنوار لتحل محلها أضواء خافتة مرتجفة يمكن حتى للمسافر اليائس أن يغفل عنها. في ساحة البلدة، ترى بضعة أغراض علاها الغبار وُضعت عليها لافتات «للبيع» منذ عقود. وما من تاجر يلمِّع منضدة محله أو يقدم «الشرابات» المصنوعة من الثلج أو يبيع أنواع التبغ المستوردة. أما الشيخ النزق الذي اعتاد كتابة الوصفات، إن شاء، فقد اختفى. كفت هذه البلدة عن التطلع إلى العالم، فغرقت في الإهمال. أينما نظرت، تشاهد قطعاً من هنا وهناك، صحفاً من عقود ماضية، أشياء قديمة يحتفظ بها المسنون. ولا شك في أن الطرقات ما عادت تمر بمرجعيون. وبعد أن كان امتدادها يشمل سورية التاريخية بأكملها ويبلغ منطقة العريش البعيدة في شبه جزيرة سيناء في مصر ليتغلغل أكثر في تلك الأنحاء وصولاً إلى النيل الأزرق والأبيض، صار يقتصر اليوم على نحو كيلومتر ونصف الكيلومتر على طول طريقها الرئيس.

في هذه البلدة، ساهمت عائلتي ذات مرة في رفع الصليب وتعكير جو السلام السائد. لم نُعرف هنا بطبيعتنا الرقيقة أو طباعنا الهادئة، مع أننا كنا من المسيحيين الأوائل الذين سكنوا هذه المنطقة. سرنا على هذه الدروب، أدينا دوراً في الوجهة التي تسلكها، واستخدمناها لنرحل. صحيح أن شجرة العائلة لا تزال تحمل الزيتون على أغصانها، إلا أننا نتبع تقليد «البقاء مستورين» (مختبئين، مقنعين، غير مرئيين) عندما نعبر عن مشاعرنا. لكن الدموع تنهمر أحياناً عندما ننظر إلى الوراء.

منزل إسبر واحد من منازل كثيرة تُركت في مرجعيون، أحد المنازل التي نصفها بالمهجورة. تخبر هذه المنازل المهجورة (القديمة، المتداعية، المسكونة) عن أمجاد مرجعيون الضائعة. لكنها أصبحت بمثابة أصدقاء بالنسبة إلى مَن مروا قربها خلال سنين كثيرة وحروب وتطورات مفصلية. من خلال نوافذها المحطمة، يرى هؤلاء المارة الزجاج اللماع وكل ما حدث وراءه. في غرفها المظلمة ينسون الجدران التي جافاها الطلاء والأرضية التي غطاها الغبار ليتخيلوا معارف أعزاء يشعلون المصابيح ويضرمون النار في فحم الموقد.

في هذه الأماكن دُوِّن تاريخ هذه البلدة، تاريخ كثيرين رحلوا. لا أزال أفكر فيهم كل يوم. تنتشر منازل مَن غادروا في كل مكان بعد أن هجرها قاطنوها. تبادلنا الرسائل لفترة. كانت صديقتي العزيزة. لم ينسَ مَن بقوا مَن رحلوا. استيقظنا ولاحظنا أن مكانهم فارغ. في هذه الغرف المتداعية يمكنك أن تسمع أصوات أشباح وندم مَن ما زالوا يتعرفون إليهم.

أغمض عينيك وانسَ مرجعيون. فها أنت تعبر وادي الليطاني لتجتاز جبال جزين وتنزل إلى الساحل، إلى صيدا.

سافر أجدادي وأولادهم وأحفادهم خلال موجة من الهجرة انطلقت مع تفكك الإمبراطورية العثمانية وانهيارها نحو بداية الحرب العالمية الأولى ودامت قرناً من الزمن. ففي تلك المنطقة التي اعتُبرت آنذاك جزءاً من سورية الكبرى، أو ما يُعرف محلياً ببلاد الشام، حملت الحرب معها سنوات من الفوضى العنيفة باتت معها إراقة الدماء أمراً اعتيادياً.

تفشت الأمراض، ومعها المجاعة التي تسبب بها البريطانيون والفرنسيون، بعد أن فرضوا حصاراً على الموانئ العربية كافة في البحر الأبيض المتوسط. نتيجة لذلك، مات مئات الآلاف من الجوع في لبنان، سورية، فلسطين، وغيرها. ولم تشكل منطقة إسبر استثناء. فقد اظهر مسح موثوق به للقرى المئة والاثنتين والثمانين في تلك المنطقة أن ربع المنازل تحولت إلى خراب بسبب الحرب ومات أكثر من ثلث ساكنيها.

دفع ذلك العقد الرهيب وما تلاه القرويين، بمن فيهم عائلتي، على هجر منازلهم للانتقال إلى بلدان تمتد من أميركا الجنوبية إلى غرب أفريقيا وأستراليا، فضلاً عن بضعة أحياء في مدينة أوكلاهوما بولاية أوكلاهوما وويتشيتا بكنساس. نتيجة هذه الحقبة من الهجرة، فاق عدد اللبنانيين في الشتات عدد مَن عاشوا ضمن حدود عام 1920، حين قسّم الأوروبيون المساحات غير المجزأة من الإمبراطورية العثمانية.

يقبع في خزانة مكتبي ملف أخضر دونت عليه عبارة «سجلات العائلة»، فيه أحتفظ بأوراق الجنسية، وثائق الزواج، أوامر تسريح جدي من الجيش الأميركي، قصة جدتي كتبتها إحدى بناتها، وسجل رحلة جدي من بيروت إلى بوسطن على متن سفينة تُدعى لاتسو. فيه أيضاً أوراق صغيرة مجعدة ومطوية تحمل شجرتي العائلتين، سمارة وشديد. تعود عائلة سمارة إلى امرأة دعيت سمارة سمارة ولدت عام 1740 وهاجرت في رحلة أسطورية يُقال إن نساء قامت بها من حوران في سورية اليوم إلى تلال مرجعيون. أما عائلتي الأخرى، فأكثر تعقيداً وتتشعب إلى أكثر من مئتي فرع من أسماء كتبت بدقة باللغتين الإنكليزية والعربية.

يحتوي هذا الملف على صور أيضاً. يظهر في إحداها والد جدي أبي أمي، مقبل، حين كان في ريعان الشباب. كان يرتدي سترة رسمية لا تُلائمه، وقد علق بطرف ياقتها وردة بيضاء ضخمة. ترى في صور أخرى سيدات متجهمات ورجالاً معقوفي الشاربين تعلو رؤوسهم كتل من الشعر المشعث المتمرد، وقد ارتدوا جميعهم أبهى حلل يوم الأحد. ثمة أيضاً صورة لمتجر السمانة الذي فتحه مقبل بعد أن كبر. تظهر في هذا المتجر لافتات كتب عليها باللغة الإنكليزية عبارات «تقدّم للمستهلك جودة عالية بأسعار منخفضة». لكن يبدو جلياً أن إنكليزيته لم تكن متقنة، كما في Help Us, Weel Help You (والمقصود بها Help Us, We’ll Help You أي ساعدنا لنساعدك). علاوة على ذلك، كان للغة مقبل الأم تأثير واضح في الخط الذي دوّنت فيه هذه اللافتات. فطغت أناقة الخط العربي على صلابة اللغة اللاتينية، فجأة الكلمات منحنية نحو اليسار عوض أن تقف مستقيمة.

جذبت الولايات المتحدة عائلتي، فخاضت رحلة طويلة قاطعة آلاف الكيلومترات. ومع أن التنقل على الطرقات الجبلية أو السفر في أدنى طبقات السفن ينطويان على مخاطر كثيرة، بقي الأصعب بالنسبة إلينا عبور تلك الكيلومترات الأولى، مبتعدين عن الوطن، عن وجوه لن تعود مألوفة بعد الآن. فعند بلوغنا نيويورك أو تكساس أو أوكلاهوما أو أياً كانت وجهتنا، نكون قد فقدنا الكثير. تكتب إليزابيث هاردويك: «سرعان ما تكتشف حين تسافر أنك ما عدت موجوداً». بكلمات أخرى، لا تخلّف وراءك مَن تعرفهم وتحبهم فحسب، بل تصبح أنت أيضاً مجهولاً. فيضيع نفوذ وسطوة اسم عائلتك، الصيت الحسن الذي بناه أسلافك بكد، كل هذه تضمحل لأن لا أحد يعرفها في هذا المكان الجديد. كذلك، تفقد كل مَن يدركون كيف تكونت شخصيتك، كل مَن يعرف ما يخبئه ماضيك من أعذار قد تبرر هفواتك. إذاً، لا يتبقى لك يوم وصولك إلا اسمك، ولكن حتى هذا قد تتخلى عنه في نهاية المطاف.

هكذا، اضطرت العائلة إلى التخلي عن الكثير في سبيل البقاء. فتجاهلت عواطفها عندما تفاقمت معاناة الكثيرين. لم يتبقَّ لهؤلاء المسافرين إلا البقاء، فضلاً عن وجوه ظلوا يتذكرونها إلى أن بهتت الصور التي يحملونها وتبعثرت. صحيح ألا أحد منا يتذكر صورة منزل إسبر سمارة، بيد أن هذا المنزل ظل صامداً، مرددين اسمه وأسماءنا. شكّل هذا المنزل مكاناً يمكننا العودة إليه, مرساة، وكل ما تبقى لنا في أرض الوطن. بالنسبة إلى عائلتي، سواء ظلت موحدة أو تفرقت، جسد منزل إسبر فكرة واضحة: تذكروا الماضي، تذكروا مرجعيون، تذكروا مَن تكونون.

 ما يعرفه الصمت

30 يوليو 2006

راح أهل القرية يصيحون في وجه الرجل الذي يقود جرافة كانت تحطم ما تبقى من بلدتهم: «ببطء، ببطء، ببطء». فخُيل لي أني أسمع في صراخهم أصوات كل مَن فقدوا منازلهم ممن عرفتهم على مر السنين.

تعجز الكلمات أحياناً عن وصف المعاناة والألم. لذلك، كرست حياتي كمراسل في الشرق الأوسط لتوثيق الحرب، ضحاياها، الناجين منها، وكثيرين ممن بدوا أقرب إلى الضحايا على رغم نجاتهم. على سبيل المثال، في بلدة قانا اللبنانية حيث دهم القصف الإسرائيلي الضحايا خلال عملهم الصباحي، رأينا الموتى، يقفون، يجلسون، ويتلفتون من حولهم. في غضون لحظات طالت فهشمت ذلك الصباح الهادئ، انمحت القرية، أصواتها وحكاياتها، أطباقها وطاساتها، أحرفها وكلماتها وتاريخها. أمام هذه الجرافة التي أخذت ترفع بقايا حياة تحطمت وقف ما تبقى من القرية: كيس بصل، علبة فاصولياء، فراش أزرق لطخته الدماء، إبريق شاي، وصورة فتى يقف بانزعاج محاولاً أن يبدو رجلاً ناضجاً.

ببطء، ببطء. تكرر هذا الطلب في ذهني، فيما استرعى انتباهي، وأنا أبحث عن تفاصيل مهمة لخبر جديد يُنشر في صحيفة «واشنطن بوست»، عبير الأرز والصنوبر. بدت لي هذه الرائحة قوية ونضرة، كما لو أنها تعِد ببداية جديدة، إلى أن اكتشفت أن الأشجار دُمرت قبل ساعات.

عندما وصلت إلى قانا، لاحظت شبكة من الأسلاك المتدلية فوق ما يشبه الشارع. يعتقد بعض اللبنانيين أن المسيح قام بعجبية تحويل الماء إلى خمر في هذه القرية وسط كروم العنب وأشجار التين وبساتين الزيتون. ولكن في ذلك اليوم الصيفي، انقصفت أشجار الزيتون بجذوعها المتجعدة، التي يرجع عمرها إلى قرن على الأرجح، كما لو أنها مسواك صغير. كانت سجادة إيرانية قد تطايرت من أحد المنازل بسبب الانفجار لتحط ممزقةً على النافذة الخلفية لسيارة شيفروليه قديمة. وفيما كان حمار يرعى، اجتاز هر خائف الحطام بسرعة، في حين استمر القصف الإسرائيلي يزمجر في البعيد. وما هي إلا لحظات حتى نهض من بين الحطام أحد عمال الإنقاذ وكان ظهره منحنياً قليلاً. كان يحتضن بين ذراعيه طفلاً لم يتجاوز السنة من عمره، الطفل عباس هاشم، الضحية السابعة والعشرين لقصف قانا. كانت مصاصة زرقاء تنسدل من قميصه الأخضر. وعلت كدمة كبيرة جبينه، وتدلى لسانه بلا حراك من فمه. وراءه رأيت كتاب «مفاتيح الجنة»، وكانت النار قد التهمت زوايا أوراقه.

اختنق معظم الموتى بسبب التراب والحطام المتطاير. فظلت أجسامهم سليمة، كاشفة عن آخر حركاتهم: يد ممدودة طلباً للمساعدة، رجل مسن يشد سرواله. أما حسين هاشم البالغ من العمر اثنتي عشرة سنة، فتكور في وضعية الجنين وبدا كما لو أنه تقيأ تراباً من فمه. كان محمد شلهوب يجلس على الأرض ويده اليمنى مكسورة. لقيت زوجته خديجة ووالدته حسناء حتفهما، كذلك ابنتاه حوراء (12 سنة) وزهراء (سنتان) وأبناؤه علي (10 سنوات)، يحيى (9 سنوات) وقاسم (7 سنوات). راح هذا الوالد المفجوع يصيح: «أتمنى لو أن الله ترك لي ولداً واحداً».