الترجمات الإنكليزية لرائعة الشاعر غوتة "آلام فيرتر" لا يحصيها العد. قصيرة، ولكن تنطوي على الملامح الروحية لعصر برمته. فوراء النص طاقتان: شخصية اعترافية، وأخرى سياسية. فإذا قاد الحب غير المُشبع الشاب "فيرتر" للانتحار في الظاهر، فإن العامل الخفي كامن في عجز المجتمع الألماني عن أن يقدم للشباب غير "حياة للمواطن مملة وخالية من الروح" على حد تعبير "غوتة". وها هي ترجمة ستانلي كورنغورد الممتازة تصدر مع مختارات نقدية عن دار نورتون من جديد.

Ad

"آلام الشاب فيرتر"، التي وضعها شاعر الرومانتيكية الألمانية غوتة (1749-1883) أشهر من أن تُعرّف، حتى في العربية. كتبها الشاعر عام 1774، أي في أول مرحلة شبابه. ويكمن سر شهرتها آنذاك في أن بطلها الشاب، الذي أحب شارلوت وانتحر، كان تجسيداً لحساسية جديدة لدى البطل الرومانتيكي، الذي بدأ عصره مع منتصف القرن الثامن عشر. فالرومانتيكية تحتفي على يد غوتة بمفهوم جديد للبطل، تلغي شخصية الفارس الشجاع والمقاتل الجريء، وتقدم بدله الإنسان ذا المشاعر. تلغي أرستقراطية الجسد وتقدم أرستقراطية الروح.

في عام 1727 كان غوتة، الذي لم يتجاوز الثالثة والعشرين، عرضة لحب امرأة تدعى شارلوتي بوف تزوجت من آخر يدعى كيستنر. وحدث أن صديقاً لهما أحب امرأة متزوجة وانتحر بسلاح استعاره من كيستنر. الشاعر غوتة انتفع من الحدثين، الى جانب لوعات روحه الخائبة. حتى أنه استخدم الرسالة ذاتها التي خلفها الصديق المنتحر في نص روايته. إلا أن الفارق بين غوتة وفيرتر كامن في أن غوتة الشاعر قادر بفنه على أن يسبر غور القلق الذي يفيض فيه ثم يُفرغه عبر الكتابة، الأمر الذي يعجز عنه البطل في الرواية. "إن فيرتر هو غوتة الشاب نفسه" يقول توماس مان، "ولكن دون موهبة الشاعر المبدع".

في عام 1816 زارت شارلوتي، وهي في الثالثة والستين، مدينة فايمر، والتقت غوتة، الذي لم يخلف لديها انطباعاً طيباً. هذا اللقاء أوحى، بعد أكثر من قرن، للروائي توماس مان كتابة روايته "لوتي في فايمر" (1939).

رواية الشاعر غوتة هذه ذات البطل الدرامي مقاربة للشعر الرومانتيكي الذي ألفته المرحلة، والعواطف الصارخة، عبر أسلوب اليوميات والرسائل فيها، تجعلها جاهزة للانتفاع من قبل المؤلف الموسيقي. الموسيقي ماسينيه (1842-1912)، الذي كان أبرز فرنسي في انعطافة القرن، صرف كل حياته للتأليف الأوبرالي، وخلف عدداً كبيراً من الأعمال الأوبرالية، لعل "فيرتر" Werther أبرزها، بعد أوبرا "مانون" Manon. ومع أن أوبرا "فيرتر" لم تُقبل أول الأمر في دار أوبرا كوميك الباريسية، إلا أنها بعد خمس سنوات حققت نجاحا كبيرا.

الأحداث يسيرة، ومحدودة الشخوص. فيرتر السوداوي يلتقي شارلوتي الوديعة الحانية، والمخطوبة من ألبيرت، بفعل وصية من والدتها المتوفاة. يؤخذ بوداعتها، وبمشاعر حب غامضة تفيض في داخله. حب مشوب بالرغبة في التلاشي داخل الحلم. في الفصل الثالث من الأوبرا يغني نصا شعريا كان الموسيقي ماسينيه ترجمه عن القصيدة الرومانتيكية الأسكتلندية الشائعة آنذاك: "أغنية أوسيان"، والتي تأثر بها غوتة حين كتب روايته هذه:

"لمَ أيقظتِني يا أنفاس الربيع؟

على جبيني أُحسُّ لمستك الحانية،

فيما زمن العاصفة والأحزان يبدو وشيكاً!

لمَ أيقظتني يا أنفاس الربيع؟

وغداً سيأتي المهاجر الذي يستعيد مجدي الآفل،

وعبثاً ستبحث عيناه عن ألقي:

حيث لا شيء غير الندب واليأس!"

الأغنية واحدة من أجمل ألحان هذه الأوبرا، وحلقة مركزية في التجاذب بين الحلم المتطلع واليأس المنحدر. موسيقى ماسينيه غنية الألحان، حتى ليغلب جمال الألحان فيها على غنى العواطف. ورائع أن يعيد أحدنا سماع أغنية فيرتر في الفصل الثاني:

"لو أني أملكُ أن أحتضنَ في الصدر/

المخلوقَ الأحب الذي أحسن الله خلقه..." مرات عديدة.