أوروبا وسُم المحصلة صفر

نشر في 04-09-2012
آخر تحديث 04-09-2012 | 00:01
من بين الدروس المهمة المستفادة من الكيفية التي تتعامل بها الدول مع النزاعات الداخلية أن الموقف المطلوب لا يستلزم تجاهل القضايا الخاصة بالتوزيع. والمجتمعات الناجحة لا تكف عن الخوض في مجادلات حول من سيستفيد ومن سيخسر من الضرائب، أو عمليات إعادة التوزيع، أو التنظيم. ولكنها لا تسمح للقضايا المتعلقة بالتوزيع بالاستيلاء على المناقشة بالكامل
 بروجيكت سنديكيت عندما ينظر أي مجتمع إلى مشاكله بشكل منفرد من خلال منظور النزاعات المتعلقة بالتوزيع، فإن فرص نجاحه في حل هذه المشاكل تتضاءل إلى حد كبير، وذلك لأن عقلية «نحن في مقابل هم» تعمل على تشويه التحليل وحجب الحلول الكفيلة بتحسين الوضع العام بشكل لا لبس فيه. إن كل اختيار سياسي يُنظَر إليه باعتباره لعبة محصلتها صفر، حيث يشكل أي مكسب لمجموعة بعينها خسارة مساوية لمجموعة أخرى بالضرورة، وهنا تتلاشى مفاهيم الثقة والتقدم.

لقد شهدنا في الماضي المدى الذي قد تذهب إليه مثل هذه الصراعات بين الأغنياء والفقراء، أو بين أصحاب العقارات وأهل الصناعة، أو بين رأس المال والعمالة، في عرقلة التنمية. ونحن نشهد اليوم في الولايات المتحدة كيف أسفرت الخصومات المتأصلة عن الوصول إلى طريق مسدود فيما يتصل بالضرائب والموازنات. وهناك العديد من الأمثلة للإصلاحات الاقتصادية الفاشلة التي تتلخص في الأساس في نفس منطق المحصلة صِفر.

ويتجلى هذا المنطق في أبرز صوره اليوم في أوروبا، فمنذ بدأت أزمة اليورو، قبل ثلاثة أعوام تقريبا، نشأ صراع مستمر بين قراءتين لهذا المنطق.

فيؤكد التفسير الأول على أوجه القصور التي تعيب عملية صنع القرار السياسي في منطقة اليورو والإصلاحات المطلوبة لعلاجه أوجه القصور هذه. ويسلط الثاني الضوء على الإخفاقات الفردية لدول منطقة اليورو والتكاليف التي تفرضها هذه الإخفاقات على الدول المجاورة. وحتى وقتنا هذا، ساد توازن فظ بين هذه التفسيرين، ولكن التفسير الثاني يكتسب وضع اليد العليا على نحو متزايد.

ففي شمال أوروبا، تزايد غضب الرأي العام بفعل ما ينظر إليه كثيرون باعتباره محاولة من قِبَل دول الجنوب لسلب مدخرات الشمال، وفي هذا الصدد، كان الخطاب الأخير الموقع من قِبَل 160 خبير اقتصادي ألماني، يزعمون فيه أن خطة الاتحاد الأوروبي لإنشاء اتحاد مصرفي ليست أكثر من محاولة لإرغام ألمانيا على دفع ثمن أخطاء إسبانية، كاشفاً إلى حد كبير.

والواقع أن خبراء الاقتصاد يتجاهلون إلى حد كبير مشكلة الهشاشة المالية، التي من المفترض أن يعالجها الاتحاد المصرفي، ويزعمون بدلاً من هذا أن المشاكل سوف تتلاشى إذا توقفت الحكومات ببساطة عن التدخل في الأزمة المصرفية. وهم يبالغون في تقييم الخطر المتمثل باحتمالات تحول خطة التأمين المشترك على الودائع إلى قناة ضخمة لتحويل الأموال بين الشمال والجنوب.

وفي المقابل تشعر بلدان جنوب أوروبا بالغضب، فمؤخرا، انتقد رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي نشوء «الديمقراطية الائتمانية» الأوروبية- انتقال الحكم إلى هؤلاء الذين يتظاهرون بأنهم على الجانب المعطاء من أوروبا- وأشار إلى أنه خلافاً للفهم الواسع الانتشار، فإن إيطاليا لا تعتمد على دعم أي شخص آخر. (الواقع أن إيطاليا تساهم في دعم دول أخرى أضرت بها الأزمة، وهذا يعني أنها من الناحية الموضوعية لا تزال دولة دائنة). وإذا تحدث مونتي الرجل الدمث الخلق بهذا المستوى فماذا نتوقع من الهجين الشعبوي الجديد الذي من المحتم أن ينشأ عن أزمة جنوب أوروبا؟

لا شك أن فِكر المحصلة الصفرية الذي يعزز الانقسام بشكل متزايد في أوروبا ليس بالفكر الجديد كليا: إن الاتحاد الأوروبي معتاد على النزاعات المرتبطة بالتوزيع، وتُعَد المناقشات المطولة للموازنة (التي تجري كل سبع سنوات) من الأحداث المريرة عادة، ولكن حتى الآن لا يزال بوسع صناع القرار السياسي أن يحتووا الخلافات في إطار المساومات السياسية المعتادة حول الضرائب والتحويلات المالية عبر البلدان. والمشكلة في المناقشة الحالية هي أن النزاعات حول التوزيع تعمل الآن على تلويث الطيف السياسي بالكامل.

لقد استشعر رجل واحد اقتراب هذا المأزق، فقد كتب رجل الاقتصاد الأميركي مارتن فيلدشتاين في عام 1997 أن الاتحاد النقدي من شأنه أن يخلق الصراع داخل أوروبا، وفي ذلك الوقت، قوبل كلامه هذا بالسخرية والاستهزاء واعتُبِر معارضاً أصيلاً للمشروع الأوروبي، ولكن من المؤسف أن نظرته كانت صحيحة: فقد أصبحت الدول الأوروبية اليوم في خلاف، ليس على الرغم من العملة الموحدة، بل بسببها على وجه التحديد.

يشير التاريخ إلى أن النزاعات الدولية بشأن الديون والتحويلات المالية تشكل خطراً حقيقيا، ففي عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كرس ممثلو الدول الأوروبية اجتماعات لا حصر لها لحل مثل هذه النزاعات (فيما يتصل بالتعويضات الألمانية في الأساس). وعلى الرغم من المساعي التي بذلتها الولايات المتحدة، فإن هذه الدول لم تتمكن من التغلب على خلافاتها، وسمحت لمشكلة التعويضات بالتحول إلى نزاع مالي مرير أسهم في تفاقم الأمور سوءاً إلى حد كبير.

بيد أن الصراع ليس حتميا، فالعديد من المجتمعات أثبتت قدرتها على التغلب على عقلية المحصلة الصفرية وأبرزت تصوراتها للمصالح الوطنية في المستقبل؛ ويتعين على أوروبا اليوم أن تجد في نفسها القدرة على القيام بنفس الأمر.

من بين الدروس المهمة المستفادة من الكيفية التي تتعامل بها الدول مع النزاعات الداخلية أن الموقف المطلوب لا يستلزم تجاهل القضايا الخاصة بالتوزيع. والمجتمعات الناجحة لا تكف عن الخوض في مجادلات حول من سيستفيد ومن سيخسر من الضرائب، أو عمليات إعادة التوزيع، أو التنظيم. ولكنها لا تسمح للقضايا المتعلقة بالتوزيع بالاستيلاء على المناقشة بالكامل، فهي قادرة على الفصل بين القضايا المتعلقة بالكفاءة أو الاستقرار والمجادلات المرتبطة بالتوزيع.

وهذا هو الدرس الذي يتعين على أوروبا أن تتعلمه، ومن الأهمية بمكان أن تدرك أنها من المحتم عليها أن تتعايش مع النزاعات المتعلقة بالتوزيع، وأن تعمل على إيجاد السبل لمعالجة هذه النزاعات، ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أن تعمل على احتواء مجال هذه النزاعات، وتجنب الوقوع في أسرها، والقيام بكل هذا يتطلب الشجاعة، والبصيرة، والثقة، وهي السمات التي يندر المعروض منها حالياً إلى حد خطير.

* جان بيساني فيري | Jean Pisani-Ferry ، أستاذ بكلية هيرتي للحوكمة (برلين) ومعهد العلوم السياسية (باريس) وهو يشغل حالياً منصب المفوض العام لإدارة الاستراتيجية الفرنسية، وهي مؤسسة استشارية سياسية عامة.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top