لا أُلفة لي مع وسائل الاتصال الإلكترونية السريعة مثل الـ"فيس بوك"، و"تويتر"، وهي كثيرة، باستثناء البريد الإلكتروني: الإيميل الذي أفتحه كل صباح، لأن الهجمة من المشاركة في التواصل، التي يقدمها الـ"فيس بوك" وغيره، تشبه مشهد عشرات أو مئات المدعوين في جلسة مستديرة داخل قاعة كبرى، يُسهمون جميعاً في الحديث لأحد ما. ما من أحد يغفلُ أحداً، ولكن بحكم الضرورة أو الواجب، لا بحكم الحاجة الشخصية. كل فرد معني بالمساهمة: أن يقول ما يحب قوله، وأن يصغي إلى ما يحب الإصغاء إليه، ولكن دون شعور بالتواصل، لأن مشاعر التواصل تستدعي خلوة، لا يمكن تحقيقها في جلسة كهذه. ولو حدث المشهد فعلاً، وهو يحدث في الواقع في المجالس العربية، فإن الفرد بين المجموع لابد أنه سيشعر بالعزلة والوحدة، لو أن نشاط التواصل اعتمد الأفكار والمشاعر المتبادلة التي تأخذ هيئة أصوات مجردة. ولكن لحسن الحظ هناك حاجة لدى البشر إلى التماس، ولتبادل الأنفاس التي تحمل الكلمات، وللإحساس بالوجود بفعل الحضور الحاسم للزمان المشترك، والمكان المشترك، من أجل أن يتم التواصل الحي.

Ad

ولكن جلسة واسعة كهذه تظل تُخفي شيئاً من مشاعر العزلة والوحدة لدى الفرد المشارك.

في مقابل مشهد الجلسة الواسعة هذه تقوم المقهى، على سبيل المثال، بدور أكثر إنسانية. الفرد يشعر فيها بدفء وحميمية الآخر الذي يجلس إلى جانبه، ولأجله، الأفكار والمشاعر التي يتناوبانها، أو يتناوبونها إذا كانوا أكثر من واحد، لن تتجرد في هيئة أصوات. إنها أفكار ومشاعر فرد بعينه، يخصّ بها فرداً آخر بعينه. وهذا الفرد ليس صوتاً، أو رمزاً يأخذ شكل الكلمة، أو تخيلاً، بل هو لحم، ودم، وأنفاس، لا تكف عن التماس، رغبةً في إثبات الوجود الحي، أو رغبة في التأكد من الوجود الحي.

محادثة التلفون لا تُشعرني بالراحة، إلا حين يكون التلفون وسيلة إيصال معلومة، لأن الحديث المتواصل مع الآخر يتطلب معرفة ظرفه، وحالته النفسية، وملامح وجهه... إلخ. توفر شروط كهذه في حالة اللقاء الفيزيائي يطمئن روحك بأنك لن تكون معزولاً ووحيداً. المحادثة التلفونية التي تعتمد التجريد لابد أنها ستشعرك بشيء من هذه العزلة والوحدة، إنك ستظل على حقيقة وضعك الفيزيائي، في حدود مَقعد مُنفرد، وما من أحد إلى جانبك.

هذه الحالة تُلقي ظلالاً بالغة الكثافة على ظاهرة التواصل الواسع، والسريع بصورة مذهلة، التي يحققها الإنترنت، فالناس تحتفي ببعض عبر تبادل الكلمات المطبوعة، ولا حتى المكتوبة، وعبر تبادل للأصوات المجردة التي لا تحملها الأنفاس، بل يحملها اللاسلك غير المحسوس. وعبر الصورة الرقمية للصديق المتحدث. الأمر الرائع في هذا التواصل اليسير والسريع كامن في ضمان وصول المعلومة، أي المنفعة، ولكنه لا يحقق ضماناً لمشاعر الصحبة غير النفعية، التي تحققها المشاركة الحسية.

في المقابل هناك أمر مريع، خلاف الأمر الرائع لظاهرة التواصل الواسع والسريع هذه، فالذي يعرف مئة، أو ألف شخص عبر الكلمة المطبوعة، والصوت المجرد، والصورة الرقمية، لا يبدو لي كمن لا يعرف أحداً فقط، بل كمن حكم على النفس بالعزلة والوحدة أيضاً. إنه سجين متر مربع أمام شاشة الكمبيوتر، ولكنه يصحب المئات من الأشخاص صحبة من نوع جديد، لا عهد لحواس الإنسان بها. صحبة لم تنتخبها الطبيعةُ الإنسانية بل المعجزة الرقمية (أو اليسر والسرعة). صحبة تلاشى فيها الاختيار الشخصي، الذي تُمليه الحواس وضرورة الحضور الحي، ولذا فهي لا تُشبع الطبيعة الإنسانية. وعدم الإشباع هذا يولّد بالضرورة إحساساً داخلياً، يكاد يكون غير واعٍ، بالعزلة والوحدة، يتنامى مع الأيام.

الصحبة الحميمة صعبة، ومن يحقق عشرة منها يحقق ثروة فائقة. والعلة كامنة في صعوبة اختيار الإنسان للإنسان عبر شروط حسية وروحية وعقلية بالغة التعقيد. الإنترنت ألغى شروط الصحبة الحميمة، وجاء بشرط الوفرة التي تضع الإنسان في مفترق طرق لا تُحصى، ولا سبيل فيها لأي اختيار. على مفترق الطرق هذا لا خيار للإنسان إلا أن يقف وحيداً معزولاً، لا يكف عن المراوحة بوهم السير، وعن تحريك الشفتين بوهم الكلام.