قبل أن يتحول إلى موسيقار كبير صاحب مشروع، لم يكتمل لتطوير وتجديد الموسيقى، وإحياء الغناء الشعبي المصري، عبر استحداث قوالب وأساليب عزف جديدة لا ترى عيباً ولا عاراً، في الاعتماد على الآلات الغربية، واضعاً نصب عينيه تجربة «الرحابنة»، فضلاً عن إيمانه الكامل بأن طلاوة الصوت ليست شرطاً للغناء، مقتدياً بتجربة معلمه وأبيه الروحي سيد درويش، بدأ محمد نوح (8 يناير 1937 - 5 أغسطس 2012) مسيرته الفنية ممثلاً، والمفارقة أن أول عمل شارك في بطولته عام 1964 كانت مسرحية بعنوان «سيد درويش» أخرجها محمد توفيق عن كتاب للمؤلف صلاح طنطاوي، ومع عام 1967 وقع الاختيار عليه من ثلاثة مخرجين كبار ليشارك في بطولة ثلاثة أفلام هي: «السيد البلطي» إخراج توفيق صالح و»الزوجة الثانية» إخراج صلاح أبوسيف و»الدخيل» إخراج نور الدمرداش، وفي الأفلام الثلاثة كان الشاب الثوري «التقدمي» الذي يناهض الظلم، حتى لو جاء من أقرب الناس إليه (شقيقه العمدة في فيلم «الزوجة الثانية»)، ويطمح إلى تغيير واقعه («البلطي» الثائر في «السيد البلطي») والرافض للمحتل الغاصب (فيلم «الدخيل»).

Ad

لكن يبدو أن البنيان المفتول لابن طنطا، الذي تخرج في كلية التجارة في جامعة الإسكندرية، وعدم تمتعه بمواصفات «الفتى الأول»، التي كانت سائدة في تلك الفترة؛ حيث العينان الخضراويان والشعر الناعم المتهدّل على كتفي الممثل، حرم محمد نوح من أن يكون «الجان» الذي تُغرم به المراهقات أو»النجم» الذي يتعلق به الجمهور، و»المناضل» الذي يعلق بذاكرته كبطل يقود قطار التغيير، فعلى رغم الفرصة الأخرى التي أتاحها له مخرج كبير آخر هو حسن الإمام في فيلم «امتثال»( 1972)، إلا أن الجمهور الذي يُقال بأنه «أخطبوط ضخم له ألف ذراع» أسقطه من حساباته، فما كان من «نوح» سوى أن استثمر ولعه بالموسيقي ودراسته التأليف الموسيقي في جامعة ستانفورد الأميركية، ووجه «بوصلته» إلى المجال الموسيقي والمسرح الغنائي، فأبدع وأضاف ووضع بصمة لا يمكن إغفالها.

مشروع «نوح» الذي حمله على كاهله، وتشبث طويلاً بظهوره إلى النور، والمتمثل في رغبته الجارفة في تأكيد الهوية من خلال البحث عن موسيقى ذات طابع مصري، عبر عن نفسه في الموسيقى التصويرية التي وضعها لفيلم «إسكندرية كمان وكمان» (1990)، وبلغ اقتناع المخرج يوسف شاهين، الذي عُرف بحسه الموسيقي وإلمامه الواسع بوظيفة الموسيقى ومتطلباتها في الفيلم السينمائي، بموهبة «نوح» أن اتخذ قراراً بالتعاون معه مجدداً في فيلم «المهاجر» (1994)، وهي التجربة التي اتسمت بالإبهار وتحولت إلى علامة مضيئة في تاريخ الموسيقى التصويرية، بتعبيرها الواضح عن «الأصالة» و»المعاصرة»، ومزجها الفريد بين «الحاضر» وعبق «الماضي»، بحيث لا يمكن مطلقاً أن تشعر معها بالغربة أو الاغتراب، وإنما تتلمس فيها حساً روحانياً وفرعونياً عميقاً نتيجة التوظيف البارع للوتريات وآلات النفخ الخشبية.

طموح محمد نوح لم يقف عند حدود، ففي حياته محطة مهمة يكتنفها الغموض أخرج خلالها فيلماً قصيراً بعنوان «رحلة العائلة المقدسة»، لكن أحداً لا يعرف ظروف وتفاصيل التجربة التي لم تتكرر، وبقيت علاقته بالسينما محصورة في وضع الموسيقى التصويرية للأفلام، مثلما فعل في: «معركة النقيب نادية» ( 1990)، «قبضة الهلالى» (1991)، «قانون إيكا» (1991)، «السجينة 67» (1992)، «أجدع ناس» (1993)، «كريستال» (1993)، «مرسيدس» (1993)، وعمله كأستاذ زائر في معهد السينما.

بعدما غيَّب الموت الفنان المبدع محمد نوح، كثرت الأقاويل حول الظلم الذي تعرض له والتجاهل الذي قوبل به منجزه، وقيل إن أحداً لم يكرمه، وإن أعياد الفن لم تأت على ذكر اسمه، كما أن قوائم جوائز الدولة لم تشتمل على ترشيحه، لأن «زامر الحي لا يُطرب»، بينما تؤكد الوقائع والأرقام أنه على رغم تبنيه موقفاً سياسياً صادماً بإعلانه تأييد اتفاقية «كامب دافيد» التي وقعها «السادات» في 17 سبتمبر 1978، ووصفها الشعب المصري باتفاقية «العار»، ثم صدم الشعب المصري أكثر باستقبال «السادات» في المطار عند عودته، فإن محمد نوح لم يعان اضطهاداً أو ملاحقة من أي نوع، بل حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام 1991، ومارس الإبداع بشتى صنوفه وأشكاله، واتجه إلى الكتابة الصحافية في جريدة حزب «الوفد» الذي انتمى إليه، بما ينفي أي اتهامات بتعرضه وهو على قيد الحياة للاغتيال المعنوي؛ خصوصاً أن ما يتبقى من الفنان، في الأحوال كافة، هو رصيده الإبداعي، وأكبر تكريم لمحمد نوح بعد رحيله أن تسأل عنه فتأتيك الإجابة: «صاحب موسيقى فيلم «المهاجر».