Shantaram... معنى الحب والقدر وخيارات الإنسان

نشر في 29-11-2012 | 00:02
آخر تحديث 29-11-2012 | 00:02
غريغوري ديفيد روبرتس مجرم صار أحد أشهر الكتّاب الأستراليين. ولد في ملبورن عام 1952. بعد زواجه، أدمن المخدرات. وكي يؤمن المال لعادته هذه، تحوّل إلى لصّ. فوقع في قبضة الشرطة وحُكم عليه بالسجن مدة 19 عاماً. لكنه ما لبث أن فرّ من السجن، متسلقاً السور الأمامي.
أمضى روبرتس عشر سنوات في الهند حيث عمل في شتى الأعمال غير المشروعة، فضلاً عن تأسيسه عيادة طبية مجانية للفقراء. ولكن في النهاية ألقي القبض عليه مجددًا وأمضى فترة عقوبته في أستراليا. خلال سجنه، بدأ روبرتس بتأليف رواية Shantaram (رجل السلام)، وضمنها الكثير مما عاشه خلال السنوات التي أمضاها هاربًا من وجه العدالة. وعندما خرج من السجن أنهى كتابة هذه الرواية، أسس شركة إعلامية ناجحة، أصبح سفيراً لمنظمة Zeitz، وامتهن الكتابة. وهو يعيش راهنًا في مومباي. إليكم مقتطفاً من روايته المذهلة Shantaram.
احتجت إلى وقت طويل وكثير من التنقل في معظم أرجاء العالم لأتعلّم عن الحب، المصير، والخيارات التي نقوم بها. لكني أدركت جوهر هذه المسائل في لحظة كنت فيها مكبلاً إلى حائط وأتعرض للتعذيب. وعيت بطريقة ما وسط الصراخ الذي تعالى في ذهني أنني، رغم عجزي وأسري الدامي، ما زلت حرًّا: أملك حرية أن أكره مَن يعذبونني أو أن أسامحهم. أعرف أن هذه الحرية لا تبدو بالأمر المهم. ولكن مع آلام السلاسل وسجنها، عندما تكون هذه الحرية هي كل ما تبقى لك، تصبح عالماً من الاحتمالات. وقد يتحوّل انتقاء الكره أو المسامحة إلى قصة حياتك.

في مطلق الأحوال، هذه قصة طويلة وحافلة بالحوادث. كنت ثوريًّا فَقَدَ مُثُله بسبب الهيروين، فيلسوفاً أضاع كرامته بسبب الجريمة، وشاعرًا خسر روحه في سجن خاضع لحراسة مشددة. عندما هربت من ذلك السجن، متسلقًا السور الأمامي بين برجي مدفعَين رشاشَين، بتّ أشهر المجرمين المطلوبين في بلدي. حالفني الحظ في عملية فراري تلك وسافر معي عبر العالم إلى الهند، حيث انضممت إلى المافيا في مومباي. عملت في التزوير، التهريب، والمتاجرة بالأسلحة. قُيّدت بسلاسل في ثلاث قارات، ضُربت، طُعنت، وتُركت لأموت جوعًا. خضت حربًا، واجهت بنادق العدو ونجوت، فيما كان الرجال من حولي يموتون. كانوا أفضل مني بغالبيتهم: كانوا رجالاً أفضل سُحقت حياتهم بسبب أخطاء وتبددت في غير وقتها بسبب كره شخص آخر أو حبّه أو لامبالاته.

دفنتُهم، دفنت الكثير منهم وبكيت على قصصهم وحياتهم برثائي حياتي.

لكن قصتي لا تبدأ معهم أو مع المافيا، بل تعود إلى ذلك اليوم الأول في مومباي. هناك ألقاني القدر في اللعبة.

لعب الحظ لعبته ليقودني إلى كارلا سآرانن. ولم أتردد في المشاركة في تلك اللعبة من اللحظة الأولى التي رأيت فيها عينيها الخضراوين. هكذا تبدأ القصة، شأنها شأن المسائل كافة في الحياة، مع امرأة ومدينة وقليل من الحظ.

أول ما لفت نظري في مومباي في ذلك اليوم الأول رائحة الهواء المختلفة. كان بإمكاني شمَّها قبل أن أرى أو أسمع أي أمر في الهند، حتى خلال عبوري الممر الذي يصل الطائرة بالمطار. أدخلت هذه الرائحة الحماسة والفرح إلى قلبي، مع أني لم أستطع تمييزها بدقة. ففي تلك اللحظات الأولى في مومباي، كنت هاربًا من السجن ومنطلقًا نحو عالم جديد. لكني أعرف اليوم أنها عبق الأمل الجميل المنبثق من تعب وكد، أمل يشكّل نقيض الكره، رائحة الجشع الراكدة البشعة التي تناقض الحب، رائحة آلهة، شياطين، إمبراطوريات، وحضارات تنهض وتنهار. إنها رائحة غطاء البحر الأزرق التي تشمها أينما كنت في تلك المدينة الجزيرة، رائحة الآلات المصنوعة من حديد ودماء. إنها رائحة نوم ونهوض وفضلات ستين مليون حيوان، أكثر من نصفهم من البشر والجرذان. إنها رائحة القلوب المحطمة وصراع الحياة، رائحة الإخفاقات الكبيرة وقصص الحب التي تولّد فينا الشجاعة. إنها رائحة عشرة آلاف مطعم، خمسة آلاف معبد، مزار، كنيسة، ومسجد، فضلاً عن مئة بازار مخصصة للعطور والتوابل والبخور والزهور المقطوفة حديثًا. حتى إن كارلا دعتها ذات مرة أسوأ رائحة طيبة في العالم. وكانت محقة بالتأكيد، كما ألفتها دوماً. وكلما أعود اليوم إلى مومباي، تكون رائحتها أول ما يُطالعني من ملامح هذه المدينة. فترحب بي وتعلمني بأني عدت إلى وطني.

كانت الحرارة الوجه الثاني من أوجه هذه المدينة التي لفتت نظري. وقفت في الصف في المطار. ومع أنه لم يمرّ على خروجي من الطائرة إلا خمس دقائق، تبللت ملابسي بالعرق فجأة. راح قلبي ينبض بقوة تحت تأثير الطقس الجديد. وبات كل نفس أشبه بانتصار صغير غاضب. اكتشفت لاحقًا أن عرق الأدغال هذا لا ينقطع أبدًا لأن الحرارة الرطبة هي ذلك النبض الذي يفرزه ليلاً نهاراً. هكذا تحوّلنا الرطوبة الخانقة إلى برمائيين في مومباي، نتنفس الماء مع الهواء. تتعلم التعايش مع هذا الوضع وتتعلم أن تحبه، وإلا فتتركه وترحل.

تعرفت بعد ذلك إلى الشعوب: الأسام والجات والبنجاب، أهل راجاستان والبنغال وتامل نادو، بوشكار وكوتشي وكوناراك، طبقة المحاربين والبرهمن والمنبوذين، الهندوس والمسلمون والمسيحيون والبوذيون والبارسيون والجاينيون والإحيائيون، أصحاب البشرة الفاتحة والداكنة والعينين الخضراوين والعسليتين والسوداويين، كل وجه وشكل في ذلك التنوع المهول، في ذلك الجمال الفريد، الهند.

هكذا أصبحت واحدًا من ملايين مومباي الكثيرة. لعل أبرز أصدقاء المهرّب البغل والجمل. تحمل البغال السلع المهربة عبر الحدود المراقبة. أما الجمال، فتمثل سياحًا غافلين عما يدور من حولهم يساعدون المهرب على اجتياز الحدود. فيتخفى المهرّب باستخدامه جواز سفر وأوراقًا ثبوتية مزورة ويندس وسط مجموعة من المسافرين، أي جمال تحمله بأمان وسرية عبر المطار أو الحدود المراقبة من دون أن تعي ذلك.

ما كنت أعرف هذه التفاصيل كافة آنذاك، فقد تعلّمت فن التهريب بعد سنوات. خلال رحلتي الأولى إلى الهند، اعتمدت في تنقلاتي على حدسي، والسلعة الوحيدة التي حاولت تهريبها كانت حريتي الهشة المطاردة. استخدمت آنذاك جواز سفر نيوزيلنديٍّا مزورًا، استُبدلت فيه صورة صاحبه بصورتي. قمت بعملية التزوير بنفسي، وما كان عملي متقنًا.

كنت واثقًا من أن جواز سفري المزور يصلح لتدقيق روتيني. ولكن إن أثيرت حوله الشكوك، وتحقق المسؤولون في المطار من صحته، متصلين باللجنة العليا النيوزيلندية، فسيُفتضح أمر التزوير بسرعة. خلال الرحلة من أوكلاند إلى الهند، جبت الطائرة بحثاً عن المجموعة الملائمة من النيوزيلنديين. فعثرت على مجموعة صغيرة من الطلاب الذين كانوا يزورون شبه القارة هذه للمرة الثانية. طلبت منهم أن يقدموا لي بعض النصائح في شأن السفر إلى الهند ويشاركوني في تجاربهم الشخصية. هكذا عززت معرفتي بهم ونجحت في عبور نقاط التفتيش في المطار برفقتهم. فقد افترض المسؤولون الهنود أنني أسافر مع هذه المجموعة من السياح الصادقين المرحين، لذلك لم يدققوا في جواز سفري.

تابعت طريقي وحيداً وسط الحشود في المطار إلى أن آلمت أشعة الشمس عيني في الخارج، وأنا سكران بنشوة الهرب. فقد تسلقت سورًا آخر، عبرت حدودًا أخرى، وأنهيت نهارًا وليلاً آخرين من الهرب والاختباء. مضى على فراري من السجن نحو سنتين. لكن واقع حياة الهارب يحتِّم عليه أن يحتفظ دومًا بوسيلة فرار، كل يوم وكل ليلة. صحيح أنني لم أكن حرًّا تمامًا، ولن أكون، غير أنني تحليت بالأمل وبالحماسة التي لم تخلُ من الخوف: جواز سفر جديد، بلد جديد، وخطوط جديدة من الوجل الممتزج بالفرح ظهرت على وجهي اليافع تحت عينيّ الرماديتين. وقفت هناك في الشارع المكتظ تحت قبة السماء الزرقاء الحارقة في مومباي. وكان قلبي صافيًا ومتعطشًا للوعود كصباح حدائق مالابار بعد الرياح الموسمية.

سمعت صوتًا ينادي خلفي: «سيدي! سيدي!». وأمسكت يد بذراعي. توقفت وشددت كل عضلة في جسمي، استعدادًا للقتال. وحاولت تمالك خوفي: لا تركض، لا تجزع. ثم استدرت. وقف أمامي رجل قصير القامة كان يرتدي زيًّا بنيًّا وسخًا ويحمل غيتارًا. لم يكن قصير القامة فحسب، بل قزمًا له رأس كبير وملامح براءة مخيفة تُميّز عادة مرضى متلازمة داون. دفع بالغيتار إليّ. «موسيقاك سيدي! أضعت موسيقاك، أليس كذلك؟».

كان غيتاري بالفعل. أدركت في الحال أنني نسيته على الأرجح قرب عربة الأمتعة. لم أعرف كيف علم هذا الرجل الصغير أنه ملكي. عندما ابتسمت له ابتسامة ملؤها الطمأنينة وفرح المفاجأة، بادلني الرجل الابتسامة بذلك الصدق المثالي الذي نخشاه وندعوه بساطة العقل. أعطاني الغيتار، فلاحظت أن الخطوط تعلو يديه كما لو أنهما ساقا طائر مخوض. أخرجت بضع أوراق نقدية من محفظتي وقدمتها له. إلا أنه تراجع بطريقة غريبة متنقلاً على قدميه الغليظتين. وقال قبل أن ينطلق عائدًا إلى الغابة البشرية على الطريق: «لا مال! نحن هنا لنساعد، سيدي. أهلاً بك في الهند!».

ابتعت تذكرة للتوجه إلى المدينة على متن حافلات «قدامى المحاربين»، اسم أعطي لهذه الشركة تيمناً بقدامى محاربي الجيش الهندي. راقبت العمال وهم يحملون حقيبتي الكبيرة وحقيبة ظهري إلى أعلى الحافلة ليرموهما وسط كومة من الأمتعة بدقة وعنف لامبالٍ. لذلك قررت أن أبقي الغيتار معي. شغلت أحد الأماكن على المقعد الخلفي في الحافلة الصغيرة لينضم إلي بعد برهة مسافران بشعرهما الطويل. سرعان ما امتلأت الحافلة بمزيج من الهنود والأجانب، معظمهم شبان يحاولون السفر بأقل كلفة ممكنة.

عندما اكتظت الحافلة الصغيرة بالركاب، استدار السائق في مقعده، حدّق إلينا بوجه مقطب، بصق مطلقاً سيلاً من عصير التامول الأحمر عبر الباب المفتوح، وأعلن عن اقتراب موعد الانطلاق.

هدر المحرك، أزّت تروس علبة السرعة، وانطلقنا بسرعة كبيرة عبر حشود الحمالين والمشاة، الذين هرولوا، قفزوا، أو تنحوا جانبًا متفادين الحافلة بمليمترات قليلة. فلعنهم المشرف، الذي احتلّ الدرجة السفلية من الحافلة، بعدائية وتفنن.

بدأت الرحلة من المطار إلى المدينة على طريق حديث عريض تحده الأشجار والجنبات. فذكرني هذا المشهد بالطرقات المرتبة العملية التي تحيط بالمطار الدولي في مسقط رأسي ملبورن. أدخل هذا التشابه إلى قلبي شعوراً بالرضا والاكتفاء تبدد عندما بدأ الطريق يضيق. فخُيّل إلي أن هذا التناقض وتأثيره في النفس مدروسان. عندما أطلت علينا الأحياء الفقيرة وتحوّلت مسالك الطريق إلى مسلك واحد واختفت الأشجار، شعرت بمخالب العار تغرز في قلبي. كانت هذه الأحياء الفقيرة تمتد إلى كيلومترات من الطريق كما لو أنها تلال من البني والأسود تعانق الأفق، متحولةً إلى سراب وسخ وسط الحر.

بُنيت هذه المساكن البائسة من سجاد، قطع بلاستيكية، أوراق، حصر القصب، وعيدان البامبو. كان كل مسكن يتكئ على المسكن الآخر، فلا تفصل بينها إلا ممرات ضيقة ملتفة. ورغم امتدادها نحو البعيد، ما كان فيها ما يرتفع متخطيًّا قامة الإنسان.

بدا لي مستحيلاً أن يقع مطار حديث مليء بالمسافرين المزدهرين والحالمين على بعد كيلومترات قليلة عن تلك الأحلام المحترقة والمتحطمة. كان انطباعي الأول أن كارثة ما حدثت هنا وأن الأحياء الفقيرة ما هي إلا مخيمات تأوي الناجين البؤساء. لكني علمت بعد أشهر أن سكان تلك الأحياء ناجون بالتأكيد، إلا أن الكارثة التي أبعدتهم عن قراهم وأتت بهم إلى هذه المناطق كانت الفقر، المجاعة، وسفك الدماء. يقصد هذه المدينة خمسة آلاف ناجٍ جديد كل أسبوع. هكذا يتراكمون أسبوعًا تلو أسبوع وسنة تلو سنة.

فيما اجتازت الحافلة الكيلومترات وتحوّل سكان الأحياء الفقيرة من مئات إلى آلاف وعشرات الآلاف، انقبض قلبي. شعرت بالعار لما أتمتع به من صحة وما أحمله في جيبي من مال. انتابني ذنب حارق بسبب مواجهتي الأولى تلك مع حثالة الأرض. سطوت على مصارف، تاجرت بالمخدرات، وتعرّضت للضرب على أيدي حراس السجن إلى أن كُسرت عظامي. طُعنت وطعنت. هربت من سجن خاضع لحراسة مشددة مليء برجال متصلبين بالطريقة الأصعب، مجتازًا السور الأمامي. رغم ذلك، تألمت عيناي عندما رأيت للمرة الأولى بؤس هذه الأحياء الجارح، تلك الأحياء التي تمتد بحسرة نحو الأفق. وللمرة الأولى في حياتي ركضت نحو السكاكين.

عندئذٍ تحولت جمرات العار والذنب في قلبي إلى نار غضب متأججة، تحوّلت إلى سخط محتدم يستنكر هذا الظلم. فكرت: أي نوع من الحكومات والأنظمة يقبل بمعاناة مماثلة؟

لكن الأحياء الفقيرة امتدت الكيلومتر تلو الآخر، ولم يتخللها سوى التناقض المريع بينها وبين مقرات الشركات المزدهرة والأبنية السكنية المتداعية المغطاة بالطحالب التي يُعتبر سكانها ميسورين مقارنة بمن يقطنون الأحياء الفقيرة.

واصلت الأحياء الفقيرة انتشارها، فقوض تفشيها أينما نظرت قناعاتي كأجنبي. تملكني نوع من الذهول. بدأت أنظر إلى ما وراء ضخامة مجتمعات هذه الأحياء لأرى مَن يقطنها. انحنت امرأة نحو الأمام لتمشط خصل شعرها الأسود الناعم، في حين راحت أخرى تحمم ولدها بالماء في وعاء من نحاس. قاد رجل ثلاث عنزات ربط أطواقها بشرائط حمراء، فيما كان رجل آخر يحلق لحيته واقفًا أمام قطعة مرآة صغيرة مكسورة. كان الأولاد يلعبون في كل مكان. حمل بعض الرجال دلاء الماء، فيما عملت مجموعة أخرى على إصلاح أحد الأكواخ. وأينما نظرت، كان الناس يبتسمون ويضحكون.

توقفت الحافلة في ازدحام السير. عندئذٍ خرج رجل من أحد الأكواخ القريبة من نافذتي. كان أجنبيًّا بشرته بيضاء كأي من الوافدين الجدد على متن الحافلة. ما كان يرتدي إلا قطعة قماش قطنية عليها مربعات لفّ بها خصره. بدأ يتمطط، يتثاءب، ويحك بطنه العاري من دون أي انتباه. لاحظت في وجهه ووقفته نوعًا من الهدوء الخامل، فحسدته على اكتفائه هذا وعلى الابتسامات التي فاز بها من مجموعة من الناس مرت بجانبه على الطريق.

اهتزت الحافلة منطلقة مجددًا، وما عاد بإمكاني رؤية ذلك الرجل. إلا أن صورته بدّلت نظرتي إلى الأحياء الفقيرة. مشاهدته هناك، وهو غريب عن هذا المكان مثلي تمامًا، جعلتني أتخيل نفسي في هذا العالم. فما بدا لي غريبًا وبعيدًا عن تجاربي كافة صار فجأة ممكنًا ومعقولاً وأخيرًا، مذهلاً.

تأمل الناس، فلاحظت عندئذٍ كم كانوا مشغولين، كم من الطاقة والعمل صاغ حياتهم! أتاحت لي اللمحات العابرة المفاجئة إلى داخل الأكواخ مدى نظافة هذا الفقر. فالأرض تبرق والآنية المعدنية تلمع على رفوف ضيقة نظيفة. أخيرًا، لاحظت متأخرًا مدى جمالهم: النساء يرتدين ألوان الأزرق والذهبي والقرمزي ويسرن حافيات وسط بشاعة الأحياء الفقيرة المتداخلة بصبر ورشاقة تفوق الطبيعة. أما الرجال، فتميزوا بوسامة لافتة بأسنانهم الناصعة البياض وأعينهم اللوزية. وما لفت انتباهي أيضًا ذلك التقارب بين الأولاد الممتلئين نضرة. فكان الأكبر بينهم يلعب مع الأصغر، وكان كثر منهم يحملون على خصورهم النحيلة إخوتهم وأخواتهم الأطفال. وبعد نصف ساعة من انطلاق الحافلة، ابتسمت للمرة الأولى.

قال الرجل الجالس قربي، وهو يتأمل المشهد من النافذة: «أليس جميلاً؟». كان كنديًّا، حسبما أشارت علامة ورقة القيقب على سترته. كان طويل القامة قوي البنية. وكانت عيناه باهتتين وشعره منسدلاً حتى كتفيه. أما رفيقه، فبدا لي نسخة منه إنما أقصر وأكثر اكتنازًا. حتى إنهما ارتديا سروالي جينز مماثلين وصندلين متشابهين، فضلاً عن السترة القطنية الناعمة ذاتها.

لم أفهم ما قاله، فسألته: «ماذا قلت؟». أجابني: «أهذه زيارتك الأولى إلى الهند؟». أومأت برأسي إيجابًا. أضاف: «ظننت ذلك. لا تقلق. من هنا يتحسن الوضع قليلاً. يقلّ عدد الأحياء الفقيرة. لكن الوضع لا يُعتبر جيدًا في أي بقعة من مومباي. هذه المدينة الأكثر بؤسًا في الهند، صدقني! ولكن بعد هذه الأحياء، سترى بضعة معابد جميلة وعددًا من الأبنية البريطانية المقبولة: أسود حجرية وأعمدة إنارة نحاسية وغيرها. لكن هذه ليست الهند. تشاهد الهند الحقيقية قرب الهيمالايا، في مانالي، في مدينة فاراناسي المقدسة، أو عند الساحل في كيرالا. عليك أن تخرج من المدينة لتعثر على الهند الحقيقية». سألتهما: «إلى أين تتجهان؟». أجابني صديقه: «سننزل في دير للراجنيشيون في بونا، الدير الأفضل في الهند».

حدّق إليّ بعينيه الزرقاوين الباهتتين بطريقة غريبة توحي إليك أن صاحبهما مقتنع بأنه عثر على السراط المستقيم. قال لي: «أتنوي الإقامة في فندق؟».

- عفوًا!

- أتريد غرفة أم أنك تغادر مومباي اليوم؟

- لا أعلم».

أجبته والتفت لأنظر مجدداً من النافذة. كان جوابي صادقًا. ما كنت أعلم ما إذا كنت سأبقى في مومباي لفترة من الزمن أو أواصل السفر إلى... مكان ما. ما كنت أعرف، وما كان ذلك يهمني. في تلك اللحظة، كنت ما دعته كارلا الحيوان الأخطر والأجمل في العالم: كنت رجلاً صلبًا، شجاعًا لا يملك أي خطة. تابعت قائلاً: «لم أضع أي خطط بعد، إلا أنني سأبقى في مومباي لبعض الوقت، على ما أعتقد». أجابني: «سنبيت هنا لنستقل القطار غدًا. يمكنك مشاطرتنا الغرفة إن شئت. فستكون الكلفة أقل إن كنا ثلاثة». تأملت عينيه الزرقاوين الصادقتين، وفكرت أن من الأفضل في البداية أن أشاركهما في الغرفة. فأوراقهما الثبوتية الأصلية وابتساماتهما السلسة ستبعد الأنظار عن جواز سفري المزوَّر. قد يكون هذا أكثر أمانًا. أضاف: «سيكون هذا أكثر أمانًا». وأردف صديقه: «نعم، إنه محق». سألتهما، مصطنعًا لامبالاة لم أشعر بها حقًّا: «أمانًا؟».

كانت الحافلة تتحرك ببطء على طول صفوف من ثلاثة أو أربعة أبنية. كان السير يتنقل عبر الشوارع بطريقة غريبة وعجيبة، فتخاله للحظات رقصة من حافلات، شاحنات، دراجات، سيارات، عربات تجرها الثيران، والناس.

حملت إلينا نوافذ الحافلة المفتوحة روائح التوابل والعطور ودخان المازوت وروث الثيران، التي اختلطت معًا لتشكّل مزيجًا رطبًا إنما ليس بمقيت. كذلك تعالت الأصوات فوق موجات من الموسيقى الغريبة. وأينما التفتت، ترى عند كل زاوية ملصقات ضخمة تروّج لأفلام هندية. كانت ألوان هذه الملصقات اللافتة تتماوج وراء وجه الشاب الكندي الطويل الذي لوحته الشمس.

back to top